يكتبها اليوم :رضا هلال مصر لا تحتاج من يقول أحبك، بل من يُثبت ذلك بعمله وإخلاصه وضميره . ليس عكس التيار هذه المرة .. بل مسايرة له اضطراريا .. فالعمر يمر ويتفلت منى وأنا ما زلت أواجه الحياة بعقل شاب وقلب طفل، هكذا أنا وأنا أقترب من الستين بخطوات واثقة. يحملنى العمر بين مشاعر متناقضة: قلق وفرح، خوف ورجاء، دهشة وتعقّل. أتعجب أحيانًا: أهذا أنا الذى مرّت به كل هذه السنوات؟ كيف تسلّل العمر سريعًا حتى كاد يفلت من بين يدى كما يتفلت الماء؟ ومع ذلك، فإننى لا أرى إلا نعم الله التى غمرتني، وأفضاله التى لا تُعد ولا تُحصى، فله الحمد على ما مضى وما هو آتٍ. لقد كان الطريق طويلًا، تخللته صعوبات وأخطاء وحماقات، لكنها تتلاشى أمام عظمة المنح الإلهية. أشعر بالرضا عمّا حققت، ومع ذلك يبقى فى داخلى غصّة، فما كان فى الإمكان أفضل مما كان. لكننى أُسلم أمرى كله إلى الله، فهو القائل: ﴿وما تشاؤون إلا أن يشاء الله﴾. لو وحين سألنى صديق: لو عاد بك الزمن، ماذا كنت ستفعل؟ أجبت بلا تردد: سأرتكب نفس الأخطاء، لكننى سأكون بارًّا أكثر بأبى وأمي، أكثر مما كنت، محبا لهما أعمق مما كنت، أقضى معهما وقتا أطول مما قضيت. فقد اكتشفت بعد رحيلهما إلى دار الحق، أن كل شيء فى هذه الحياة يمكن تعويضه: المال، المناصب، الفرص، وحتى بعض العلاقات. كل شيء يمكن إدراكه إذا فات... إلا الأبوين. هما الكنز الحقيقي، الحنان الصافي، والظل الظليل. لقد رحلت أمى وقبلها بأيام معدودات (67 يوما) رحل أبى إلى جوار ربهما، رحمهما الله رحمة واسعة، لكن صورتهما ما زالت محفورة فى قلبي، وصوتهما يملأ وجداني، ورائحتهما عالقة فى تفاصيل يومي. واليوم، حين أتذكر يوم ميلادى الذى يتوافق هذا العام مع احتفالنا بذكرى يوم مولد النبى صلى الله عليه وسلم، أشعر أن هذا من حسن الطالع ومصدر للفرح والسرور. فهذا يجعلنى أستحضر المعنى العظيم وأخفف عن نفسى وطأة التأنيب والندم، وأقلل من شحنات الحنق على نفسى مما اقترفت وأنا وإن كنت بعيدا جدا عن جادة الصواب فى كثير من الأمور، اعتبرها إشارة جيدة للتخفيف عنى من مصاعب الحياة التى أصبحت تنوء بها الجبال، وتنحنى لها الرءوس من شدتها ولكن البشائر تمنحنا طاقة فوق الطاقة وروحا تنقى الروح، وقلبا يقوى القلب. غبطة بوجود الأبوين إننى أغبط كل من أبواه على قيد الحياة، يستطيع أن «يتمرمغ» تحت أقدامهما حبًا وبهجة وسرورًا. ولذا أقول لهم: لا تُفرّطوا فى هذه النعمة؛ ابتسموا لابتسامتهم، واسعوا لرضاهم، اجعلوا برّهم فوق كل انشغال، فليس فى الدنيا متعة أصفى ولا حنان أرقّ. لقد أدركت أن العمر قطار يمضى بنا، تارة ببطء وتارات بسرعة، ونحن بين الغفلة والانتباه. وما أجمل أن يوفقنا الله لاختيار الطريق الصحيح، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وهديناه النجدين﴾. واليوم، وأنا على أعتاب الستين، أسأل الله أن يبارك فيما تبقى من العمر، وأن يغفر ما سلف، وأن يجعل كل كلمة نكتبها وعمل نؤديه فى سبيل رضاه. وصيتى وصيتى للأبناء والأجيال: تمسكوا ببرّ الوالدين، فهو أعظم عمل بعد توحيد الله، ولا تؤجلوا الحب ولا المعروف. ازرعوا الخير فى كل خطوة، وكونوا أوفياء لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك. فالعمر مهما طال قصير، وما يبقى بعد الرحيل إلا عمل صالح، ودعاء ولد بار، وذكرٌ طيب. شكرا نادية من حسن الطالع... وربما هى مصادفة قدرية، أن يتوافق يوم ميلادى مع ميلاد أختى نادية. هى سبقتنى إلى الدنيا بسنتين كاملتين، لا زيادة فيها ولا نقصان، حتى فى السويعات. اليوم، وهى تقف على أعتاب ما بعد الستين، يمكننى أن أقول بكل فخر: لقد أدّت رسالتها فى الحياة على أكمل وجه. ربّت أبناءها بأحنّ الطرق، فخرج من بين يديها ثلاثة أطباء وحقوقية لطيفة - فاطمة، بارك الله فيهم جميعًا، وجعلهم ثمرة تعبها وامتداد رسالتها ، نادية لم تكن أمًّا فقط، بل كانت أيضًا معلمة أجيال، أكثر من أربعة وثلاثين عامًا فى تدريس الرياضيات، بإيمان صادق بأن التعليم رسالة، وأن العلم أمانة يجب إيصالها. حتى آخر يوم قبل بلوغها الستين، كانت تعطى درسها كما لو أنه الأول... بحب، بصدق، وبعزم. شكرًا نادية... على كل جهد بذلتيه، وعلى كل طالب وطالبة ساعدتيهم على فهم درس، أو اجتياز صعوبة، أو حب العلم. شكرًا لأنك كنتِ نورًا فى طريق الكثيرين. الطريق إلى ما تحب.. ليس سهلًا، لكنه يستحق. فى البداية، قد تمر على محطات لا تحبها، تصادف صعوبات، تتعثر، وتتساءل: «هل أستطيع الاستمرار؟» لكن كل عثرة ستعلّمك شيئًا، وكل تحدٍ سيضيف لقوتك، وكل لحظة ضيق.. تقرّبك أكثر من حلمك. ستشعر أحيانًا بالظلام، لكنك ستدرك لاحقًا أن كل خطوة، حتى وإن كانت مؤلمة، كانت ضرورية لتصل إلى ما تريد. فاصبر.. ثق أن الأيام الصعبة هى التى تصنع منك شخصًا أقوى، أكثر صلابة، وأكثر قدرة على مواجهة الحياة. رحلتك ليست عقبة، بل إعداد. والنهاية ستكون أجمل مما تتخيل . أعمل من أجلها أرجوك لا تقل أبدًا أنك تحب مصر، أو أنك تعشق ترابها، ... من فضلك لا ترفع شعارات الوطنية كأنها وسام شرف تتفاخر به أمام الناس، لا تجعل حبك للوطن كلماتٍ تتطاير فى الهواء، أو أغنية تحفظها عن ظهر قلب. فالوطن «يا صاحبى» لا يحتاج مزيدًا من الشعارات، بل يحتاج من يعرق فى سبيله. لا تكن وطنيًا بالهتاف، بل وطنيًا بالفعل. كن إنجليزيًا فى العمل، ألمانيًا فى الانضباط، أمريكيًا فى الشعور بالمسئولية تجاه الدولة، لا فى حبها اللفظى. لقد طفت العالم شرقًا وغربًا، ولم أجد بريطانيًا يصرخ فى الإعلام قائلاً: «I love Britain». ولا أمريكيًا يتغنى ب «عشق تراب الوطن»، ولا فرنسيًا يفيض بالكلمات، لكننى رأيتهم يعملون فى صمتٍ، يبنون فى إخلاص، ويخططون فى انضباط. هناك، لا يعلن المواطن عن حب وطنه، بل يُثبته فى أفعاله كل يوم، أما نحن، فصرنا نغرق فى ضجيج الكلمات، نخلط الوطنية بالمجاملات، ونظن أن التغنى بمصر يكفى لتقدمها، لكن الحقيقة مؤلمة، مصر لا تحتاج من يقول أحبك، بل من يُثبت ذلك بعمله وإخلاصه وضميره ، مصر اليوم تحتاج إلى العمل، على أسس علمية، وتؤمن بأن التنمية ليست مشروعًا حكوميًا، بل مشروع شعب بأكمله، تحتاج إلى عقول لا تطنطن، إلى أيادٍ لا تتواكل، إلى صدورٍ لا تبرر الفشل، وإلى ضمائر لا تتساهل مع الفساد. شيدنا السد العالى، انتصرنا فى حرب أكتوبر، وبنينا جامعات ومصانع ومدنًا من العدم. لكن حين ساد التراخى، وجلس كلٌّ فى مكانه ينتظر غيره ليعمل، تراجعت المعانى، وتهدمت القيم، وتفشى النهب، وتفوقت المصلحة الشخصية على مصلحة الوطن، اليوم نحن فى خطر لا يقل عن الحروب التى خضناها يومًا. الوطن لا يُحب بالكلمات، الوطن يُحب بالصدق، بالعلم، بالعرق، بأن تفعل كل يوم ما يجعله أفضل ولو قليلًا. فلا تقل بعد اليوم: «أحب مصر» بل قل: «أعمل من أجلها» .