«من أسواق الخضار في أحياء روما الشعبية، إلى مقاعد القمم الدولية».. هكذا سطّرت جورجيا ميلوني رئيس وزراء إيطاليا، واحدة من أكثر قصص الصعود السياسي إثارة في أوروبا المعاصرة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف خرجت امرأة من الهامش لتصبح أول رئيسة وزراء في تاريخ إيطاليا؟. ورغم حضورها اللافت في المحافل الدولية، وآخرها قمة شرم الشيخ للسلام، فإن ميلوني ما تزال محور جدل واسع، تتأرجح صورتها بين "الزعيمة القوية" و"النسخة الإيطالية من دونالد ترامب"، وبين من يراها رمزًا للتمكين النسائي ومن يعتبرها الوجه الناعم للزعامة. استطاعت "ميلوني" قلب معادلات السياسة في إيطاليا، وأعادت تعريف "المرأة القائدة" في زمن يزدحم بالشعارات عن الحرية والمساواة. وأصبحت "ميلوني"، محل حديث على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد مشاركتها في اتفاقية السلام في شرم الشيخ. وفي هذا التقرير نكشف أبرز المعلومات عن جورجيا ميلوني، وكيف أصبحت "المرأة الحديدية" في المجتمع الإيطالي؟ أول رئيسة وزراء في إيطاليا دخلت جورجيا ميلوني زعيمة حزب "إخوة إيطاليا" (فراتيلي ديتاليا)، التاريخ الإيطالي كأول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في إيطاليا في أكتوبر 2022، وأول رئيسة يمينية متطرّفة، لثالث قوة اقتصادية في منطقة اليورو. بدت تلك الخطوة للوهلة الأولى انتصارًا جديدًا للنساء في أوروبا، لكن سرعان ما أثارت الجدل حول ماهية هذا التمكين الذي تمثله، وحدود الصورة التي رسمتها لنفسها ك"امرأة محافظة في عالم مضطرب". شبيهة ترامب تعرف ميلوني بخطابها الحاد والمباشر، وبقدرتها على تحريك الجماهير بخطاب قومي يرفع شعار "الله، الوطن، العائلة"، وهي نفس الثلاثية التي اعتمد عليها دونالد ترامب في حملاته، ولكن بطابع إيطالي أكثر نعومة، ومن هنا جاء وصفها المتكرر في الإعلام الدولي "النسخة الإيطالية من ترامب". وكانت عبارتها "أنا جورجيا، أنا امرأة، وأم ومسيحية" إحدى أكثر كلماتها شعبية، حيث انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، وتم تحويلها إلى أغنية راب. وفي خطاب مقتضب في روما، قالت ميلوني: إنّ "الإيطاليين بعثوا رسالة واضحة لدعم حكومة يمينية بقيادة فراتيلي ديتاليا"، واعدة "بأننا سنحكم لجميع" الإيطاليين. صعود من الهامش إلى القمة على مدار 40 عاما، كانت آنا ماريا تورتوا "جدة ميلوني"، تبيع الخضار في روما، ولم تكن تتخيل أن الفتاة الصغيرة التي ولدت في بيتها ستفوز بالانتخابات العامة في إيطاليا. ولدت ميلوني عام 1977 في روما، ونشأت في حي فقير بعد انفصال والديها، وكانت وتلدتها تميل إلى اليمين، ووالدها يميل إلى اليساريين، ويعتقد الكثيرون أن انضمامها لليمين للانتقام من والدها. عانت في صغرها من التنمّر بسبب السمنة، وعملت في طفولتها بائعة للخضار في سوق شعبي في الحي، ثم مربية أطفال، فنادلة في حانة وميلوني هي أم غير متزوجة، وتتميز بلكنة رومانية قوية. حياتها السياسية بدأت الصحفية الإيطالية جورجيا ميلوني، حياتها السياسية عندما كانت في سن الخامسة عشرة، حيث أسست هيئة التنسيق الطلابية "Gli Antenati"، والتي أصبحت القوة الرئيسة للاحتجاج على مشروع إصلاح التعليم العام في ذلك الوقت.. واستمرّت ميلوني في عملها النقابي، حتى عام 2005، حيث أصبحت عضوة في "حزب التحالف الوطني" ذي التوجّه الفاشي. وفي عام 2006، أصبحت ميلوني عضوًا في مجلس النواب الإيطالي على قائمة "التحالف الوطني"، وأصبحت أصغر نائب رئيس لمجلس النواب الإيطالي على الإطلاق، وكانت تبلغ حينها 29 عامًا.وبعد عامين، عتم تعيينها وزيرة للشباب في حكومة سيلفيو برليسكوني. وفي عام 2012، وبعد انتقادها لبرلسكوني والمطالبة بالتجديد داخل الحزب، انسحبت ميلوني، وأسست حزب "إخوة إيطاليا". نسوية.. ولكن بشروط بدأت مشوارها السياسي في سن المراهقة داخل حزب يميني متطرف، ثم واصلت صعودها بسرعة لافتة حتى أصبحت وزيرة للشباب في عمر الحادية والثلاثين، هذا الصعود السريع جعلها رمزا لما تسميه "المرأة القوية"، لكن منتقديها يرون أنها استخدمت صورة "لأم الإيطالية" لتجميل سياسات محافظة تقيد حرية النساء بدلا من دعمها. تصف ميلوني نفسها بأنها "امرأة، أم، إيطالية، ومسيحية"، وتؤكد أنها مثال للمرأة القادرة على القيادة دون أن تتخلى عن دورها الأسري. لكنها في المقابل ترفض كثيرا من مبادئ النسوية الحديثة، وتعارض الإجهاض والمساواة الكاملة في الأجور، وتؤيد سياسات تقيد المهاجرات والأسر غير التقليدية، وهو ما جعل بعض المفكرات يصفنها بأنها "الوجه النسائي للرجعية السياسية". وعارضت ميلوني عمليات الإجهاض والقوانين التي تعترف بزواج المثليين. وخلال تجمع حاشد عام 2019، تحدّثت ضد الأبوة والأمومة من الجنس نفسه، وانتشر خطابها على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، كما عارضت قانون مكافحة "رهاب المثلية"، مؤكدة أنه لا يوجد "رهاب المثلية" في إيطاليا. وحذّرت من مخاطر الهجرة والمثلية الجنسية، قائلة: "نعم للعائلة الطبيعية، نعم للهوية الجنسية، لا للأيديولوجية الجندرية، نعم لثقافة الحياة، لا لثقافة الموت.". وقالت للصحيفة الأميركية: إنّ "كل ما ندافع عنه، بما في ذلك القيم المسيحية والأعراف التقليدية للجنسين، يتعرّض للهجوم". كما شدّدت على المخاوف الاقتصادية في بلادها، وتحدّثت عن ارتفاع تكلفة الطاقة والمواد الخام، ومخاوفها من عودة وباء كوفيد- 19 إلى البلاد، وقلقها من ارتفاع الدين العام في إيطاليا. توجهاتها السياسية خلال تزعمها حزب "أخوة إيطاليا"، حوّلت حزبها إلى قوة سياسية شعبوية قادرة على جذب الناخبين اليمينيين والمعتدلين. وتصف ميلوني نفسها وحزبها ب"المحافظين"، وقالت لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية: "ليس هناك شك في أن قيمنا هي قيم محافظة. قضية الحرية الفردية، والمشاريع الخاصة في الاقتصاد، والحرية التعليمية، ومركزية الأسرة ودورها في مجتمعنا، وحماية الحدود من الهجرة غير المقيدة، والدفاع عن الهوية الوطنية الإيطالية، هذه هي الأمور التي نهتم بها". لكنها في الوقت نفسه، تقف ضد "الفكر اليساري". وأوضحت أنه "لا مكان للأشخاص الذين يحنون إلى الفاشية والعنصرية ومعاداة السامية" في صفوف حزبها. وتحت شعار "الله الوطن العائلة"، تشمل أولوياتها إغلاق الحدود الإيطالية لحماية البلاد من "الأسلمة"، وإعادة التفاوض بشأن المعاهدات الأوروبية، ومحاربة "مجموعة الضغط لمجتمع الميم". ترامب بإيطالية فصيحة مثل ترامب، تعتمد ميلوني على الخطاب الشعبوي واللغة العاطفية لتكريس فكرة "الهوية الوطنية" في مواجهة المهاجرين والليبراليين. جاء تشبيهها الإعامى بترامب، بسبب أنها هي ضد الانفتاح الثقافي، وضد الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية، وضد أي تغيير قد يمس مفهومها المحافظ للأسرة والمجتمع، لكن الفارق الجوهري بينهما أنها تجيد ارتداء قناع الدبلوماسية، وتعرف متى تستخدم صوتها الهادئ بدل الصراخ الذي اعتاده ترامب. امرأة تمثل من؟ رغم كونها أول رئيسة وزراء في تاريخ إيطاليا، فإن نساء كثيرات في بلادها لا يشعرن بأنها تمثلهن زعما بأنها تحقق إنجازات سياسية باسم "تمكين المرأة"، وتتبنى سياسات تعتبرها الناشطات عودة إلى الوراء، ولا تنكر ميلوني ذلك، بل تراه فخرًا وتقول: "أنا لا أريد كسر الأدوار التقليدية، بل الدفاع عنها". بين الإعجاب والجدل اليوم، تبقى جورجيا ميلوني واحدة من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في أوروبا، حيث يراها محبوها زعيمة قوية أعادت الثقة لهوية إيطاليا الوطنية، بينما يعتبرها معارضوها بأنها امتداد لتيار يميني يستخدم المرأة كواجهة براقة لخطاب محافظ متشدد. وبين الخطين، تظل ميلوني نموذجًا فريدًا لامرأة تجمع بين القوة السياسية والصرامة الأيديولوجية، بين الجاذبية الإعلامية والرؤية المحافظة، نسخة جديدة من ترامب، ولكن بلغة إيطالية أنيقة.