قلعة «كافكا» مرجعى المقدس «لم أخطّط لأن أكون أديبًا، بل بدأت بفكرة تأليف كتاب واحد، لكننى استمررت فى الكتابة لإصلاح ما رأيته خطأً فى أول عمل لى. كل حياتى محاولةٌ للتصحيح». هذه واحدة من تصريحات الأديب والسيناريست المجرى «لاسلو كراسناهوركاى» الفائز بجائزة نوبل للآداب يوم الخميس الماضى. ومن يتتبّع تصريحاته بعد الفوز، أو حواراته الصحفية قبل الجائزة على المواقع الأجنبية، يمكنه قراءة ما وراء نتاجه الأدبى من أفكار حول الكتابة وعلاقته بها، وتمجيده للخيال كأهم مصدر إلهام له باعتباره ضرورة، لأنّ - على حدّ قوله - حالة العالم مظلمة وتحتاج إلى قوة داخلية للبقاء والنجاة من الصعاب. وهذا يتوافق مع ما طرحته لجنة نوبل فى حيثيات فوزه، والتى وصفت أعماله بأنها «مُدهشة ورؤيوية»، وتؤكد قوة الفن فى مواجهة رعب الكوارث الإنسانية، كما يتّسق مع وصف النقاد له ب«سيد السرد المعاصر فى تصوير نهاية العالم» عام 1985 بعد صدور روايته الأولى «تانجو» الخراب. تُرجمت أعمال «لاسلو» إلى أكثر من أربعين لغة، من بينها اللغة العربية، حيث ترجم له المترجم الحارث نبهان روايتين هما: تانجو الخراب وكآبة المقاومة، والأخيرة حازت جائزة «المان بوكر» عام 2015. ويضع «لاسلو» الترجمة فى مكانها الصحيح؛ فهى ليست الأصل، بل عملٌ آخر يشبه الأصل، وهى مساهمة للمترجم. لكنه يتعامل معها بقدر كبير من القلق والامتنان فى الوقت نفسه، لأنه يدرك أن نصوصه «بالغة الكثافة والإيقاع»، وأن ترجمتها تتطلب «مترجمًا يمتلك موسيقى داخلية مشابهة». وقد أشار إلى أنه محظوظ لأن ترجماته إلى الإنجليزية، خاصة على يد «جورج سيرتس»، نقلت «روح النص» أكثر مما نقلت كلماته فقط. وقال عن استقبال أعماله فى لغات مختلفة إن «كل ترجمة جديدة هى حياة موازية للنص، قد تكون أجمل أو أبشع، لكنها تفتح نافذة على قارئ جديد لم أكن أتخيله». لذلك لديه رغبة فى أن تبقى ترجمة نصوصه غير ميسَّرة جدًا، أى لا تُبسّط كثيرًا حتى لا تفقد طابعها الغريب والمميز. ويبدو أن «لاسلو» مدرك لصعوبة الترجمة عن اللغة المجرية، التى أتاحت له - من وجهة نظره - مساحة للّعب بشكل مختلف. وقد أشار فى أكثر من حوار إلى أن اللغة المجرية بالنسبة له ليست مجرد أداة للتعبير، بل هى موطنه الحقيقى. يصفها بأنها «لغة مغلقة على نفسها، غريبة على العالم، لكنها تمنحنى حرية مطلقة داخلها»، ويرى أن الكتابة بالمجرية نوعٌ من المقاومة ضد التبسيط، لأنها تسمح له بأن «يتحرك داخل الجملة كما لو كان يتحرك فى متاهة». وفى أحد لقاءاته أيضًا قال إنه عندما يكتب، يفكر بصريًا أكثر مما يفكر لغويًا، وكأن الكلمة بالنسبة له صورة تتحرك، وهذا يفسّر جزئيًا صعوبة ترجمته. وأوضح أنه أحيانًا يكتب جملة واحدة تستمر عشرين سطرًا، فلا تتوقف أفكاره، أو كما عبّر: «اللغة المجرية تسمح لى بالركض وراءها دون أن أتنفس». وفى أحد تصريحاته الصحفية لم يُنكر إعجابه باللغة العربية (ولغات غير مألوفة أخرى) كمحيطٍ لغوى يمكن أن يُلهِم أو يُنقّى حسَّه اللغوى، أو على حدّ تعبيره: «اللغة الأخرى تظلّ لغة، هم أيضًا بشر. أحب جدًا أن تحيط بى لغة لا أعرفها». وهو ما يعكس حسَّه الإنسانى تجاه اللغات الأجنبية كأصوات وثقافات. وُلِد «لاسلو» فى مدينة مجرية، وعاش حياته بين دول أوروبا الشرقية، وجاب العالم، وإن كان يقيم الآن قرب «بودابست»، ويتنقّل بين «فيينا» و»ترييستى» و»فرانكفورت». تأثرت رواياته بالريف المجرى، وبالتحولات التى شهدتها أوروبا الشرقية، وبثقافة الصين واليابان، إلى جانب تأثره الواضح بأدباء أوروبا فى القرن العشرين. وقد وصف فوزه بالجائزة بأنه «أكثر من كارثة» فى إشارة ساخرة إلى ردّة فعل الكاتب الإيرلندى «صمويل بيكيت»، صاحب أهم مسرحيات العبث، بعد فوزه بنوبل عام 1969. لكنه أوضح لاحقًا أنه فى الواقع سعيد وفخور بانضمامه إلى قائمة من الكُتّاب الكبار الحاصلين على الجائزة، حتى لا يُقال إنه تقبّلها على مضض مثل أستاذه «بيكيت». ولا يمكن الحديث عن أساتذته دون الإشارة إلى «كافكا»، الذى بدأ روايته الأولى باقتباس له: «فى تلك الحالة، يجعلنى انتظار الشىء أخسره!» كما استهل عمله بتناص مع مدخل رواية المسخ ل»كافكا». ليس ذلك فحسب، بل إن العمل ككلّ متأثر بأجواء «كافكا» الكابوسية. ولم يُنكر «لاسلو» هذا التأثر فى تصريحاته التى وصل فيها إلى القول إنه حين لا يقرأ «كافكا» يفكّر فى «كافكا»، وحين لا يفكّر فيه لوهلة، فإنه يعود إلى قراءته. مما يعكس هذا الوله بكاتبه المفضّل، وقد أشار أيضًا إلى أن رواية القلعة ل»كافكا» كانت مرجعًا مقدسًا له وشكّلت تكوينه الأدبى، بل وصف تأثير «كافكا» بأنه جزء من وجوده الأدبى.