◄ جدل العلماء.. مركب للإبحار أم رمز جنائزي للخلود؟! في قلب المتحف المصري الكبير، على أعتاب هضبة الجيزة، تقف مراكب الشمس شاهدة على عبقرية المصري القديم ورؤيته للحياة والموت والخلود، ومراكب الشمس أصبحت أيقونة رئيسية فى المتحف المصري الكبير، وهى من ضمن القاعات المغلقة مثل قاعة توت عنخ آمون، بل وفي السردية الثقافية لمصر الحديثة. فهى تجمع بين عبقرية الماضى وابتكارات الحاضر، بين الرمز الدينى والتقنية المتحفية، بين جدل العلماء وانبهار الزوار. ■ رحلة نقل مراكب الشمس إلى مقرها في متحف مصر الكبير بينما تستقر هذه المراكب فى مكانها الجديد، فإنها تواصل الإبحار فى خيال الإنسانية، تحمل معها رسالة المصرى القديم عن الخلود، وتؤكد أن الحضارة المصرية ما زالت قادرة على الإدهاش والإلهام بعد آلاف السنين. ارتبطت مراكب الشمس بفلسفة المصريين القدماء عن العالم الآخر. فقد آمنوا أن الملك، بعد وفاته، ينطلق فى رحلة أبدية مع إله الشمس «رع»، ليبحر فى السماء نهارًا ويعود إلى باطن الأرض ليلًا، فى دورة لا تنتهى من الميلاد والبعث. ومن هنا جاءت فكرة تجهيز المركب الجنائزى للفرعون خوفو، بانى الهرم الأكبر، كوسيلة للانتقال إلى عالم الخلود. هذه الرؤية الدينية لم تكن رمزية بحتة، بل انعكست على الواقع المادى: خشب الأرز المستورد بعناية من لبنان القديمة، مهارة النجارة البحرية فى التجميع، والطول المهيب للمركب الذى تجاوز 43 مترًا. كلها تفاصيل تكشف أن المصرى القديم لم يكن يصنع مجسمًا، بل مركبًا حقيقيًا قادرًا على الإبحار، وإن كان الغرض النهائى منه روحيا وطقسيا. ◄ حفرة مغلقة في 1954، وأثناء أعمال الحفر على الجانب الجنوبي من هرم خوفو، عثر الأثرى كمال الملاخ على حفرة مغلقة بإحكام بألواح حجرية ضخمة. وعندما فُتحت، ظهرت آلاف القطع الخشبية المفككة، بلغ عددها أكثر من ألفى قطعة، كانت فى الحقيقة أجزاء مركب كامل. عملية إعادة التركيب استغرقت سنوات طويلة من العمل الدقيق، قادها الأثرى أحمد يوسف، لتظهر أمام العالم واحدة من أضخم المراكب الخشبية التى خلفها المصرى القديم. هذا المركب، المعروف باسم «مركب الشمس الأول»، ظل معروضًا فى متحف خاص بجوار الهرم لعقود، حيث كان مقصدًا للزوار والباحثين. لاحقًا، تم اكتشاف حفرة ثانية بجوار الأولى، تحتوى على أجزاء مركب آخر عُرف باسم «المركب الثانى». هذا المركب ظل فى حالة أقل جودة من حيث الحفظ، لكنه يمثل مكملًا مهمًا للصورة الكاملة عن الطقوس الجنائزية للملك خوفو. ■ تجهيزات قبل نقل مركب خوفو ◄ اقرأ أيضًا | من المسلة المعلقة إلى كنوز «توت».. «أخبار اليوم» ترصد خريطة زيارة المتحف المصرى الكبير ◄ رحلة النقل حين بدأ التخطيط للمتحف المصرى الكبير، كان من الواضح أن مركب خوفو لا بد أن يكون بين أبرز معروضاته. لكن التحدى كان ضخمًا: كيف يمكن نقل قطعة أثرية خشبية بهذا الحجم والوزن (نحو 45 طنًا) وبالهشاشة التى اكتسبتها مع مرور آلاف السنين؟ الإجابة جاءت عبر تعاون دولى وتقنيات حديثة. تم تصميم قفص فولاذى ضخم بوزن 60 طنًا يحيط بالمركب، قادر على امتصاص الصدمات وحماية القطع من الاهتزاز. ثم جرى تحميله على ناقل متعدد المحاور (SPMT) مجهز بأنظمة توازن دقيقة، وتحكم فى الحركة عبر مركبة ذكية مُتحكم فيها عن بُعد جُلبت من بلجيكا. استغرقت الرحلة حوالى عشر ساعات، قطعت خلالها المركبة نحو ثمانية كيلومترات من موقع الهرم حتى المتحف الكبير. كانت العملية تُراقب بدقة من خبراء مصريين وأجانب، ووصفتها الصحافة الدولية بأنها واحدة من أعقد عمليات النقل الأثرى فى العالم. ◄ الطقوس والتكنولوجيا اليوم، يستقر مركب خوفو الأول فى قاعة مخصصة داخل المتحف المصري الكبير. القاعة مجهزة بأحدث تقنيات العرض والإضاءة، تحيط بالمركب شاشات تفاعلية ورسومات ثلاثية الأبعاد تشرح تفاصيل اكتشافه وإعادة تركيبه ونقله. الهدف ليس مجرد العرض البصرى، بل تقديم تجربة معرفية متكاملة للزائر، تربط بين الدينى والفنى والهندسى. أما المركب الثانى، فيخضع لعمليات ترميم دقيقة بالتعاون بين فريق مصرى وخبراء دوليين، ومن المقرر أن يُعرض داخل المتحف أيضًا بعد الانتهاء من أعمال الترميم. بهذا يكتمل المشهد، لتعود مراكب الشمس لترسو جنبًا إلى جنب كما أراد لها المصرى القديم. أثار عرض مراكب الشمس فى المتحف المصرى الكبير اهتمامًا واسعًا بين علماء المصريات حول العالم. مجلة Smithsonian الأمريكية علقت على النقل بقولها إن الخبراء لا يزالون يختلفون حول الوظيفة الحقيقية لهذه المراكب: هل كانت أدوات عملية للإبحار فى النيل والسماء، أم مجرد رموز طقسية؟ وأشارت إلى أن تصميمها المتقن يرجح أنها كانت قادرة على الإبحار بالفعل، وإن كان استخدامها الجنائزى هو الأرجح. موقع IFLScience بدوره أكد أن وجود مراكب بهذا الحجم بجوار الهرم الأكبر يثير تساؤلات عن دلالتها الاجتماعية والدينية، لافتًا إلى أن الأسلوب الفريد فى ربط الألواح باستخدام الحبال دون مسامير يعكس خبرة بحرية عالية. أما الدراسات الأكاديمية، مثل رسالة ماجستير من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، فقد ركزت على مقارنة بين المركبين الأول والثانى، وتحليل تأثير البيئة على حالة الخشب، وكيف ساهمت التربة الجافة فى الحفاظ على المركب الأول، بينما أدى تعرض الثانى لعوامل بيئية أكثر قسوة إلى تدهور حالته. هذه التحليلات تمنح العلماء فرصة لفهم أفضل لتقنيات الحفظ القديمة وتحديات الترميم الحديثة. اليوم، حين يقف الزائر أمام مركب خوفو فى قاعة العرض، فهو لا يرى مجرد أثر خشبى ضخم، بل يواجه قصة إنسانية وحضارية متكاملة. القارب يروى حكاية عن ملك أراد الخلود، عن نجارين مهرة صنعوا معجزة خشبية، عن عالم آثار اكتشف كنزًا مدفونًا، وعن مهندسين معاصرين نقلوه بأمان إلى مكانه الجديد. وفى الوقت ذاته، يفتح المركب أبوابًا للنقاش العلمى: هل كان للإبحار الفعلى؟ ما دلالة دفنه بجوار الهرم؟ وكيف استطاع المصرى القديم الجمع بين الرمزية الدينية والإتقان العملى؟ هذه الأسئلة تظل مطروحة، وتجعل من مراكب الشمس موضوعًا حيًا يتجدد مع كل جيل. ◄ مستويات العرض الزائر سيكون قادرًا على مشاهدة المركب من مستويات عرض مختلفة، بحيث يرى القاع والشكل العام. بمعنى أن القاعة ستكون متعددة الطوابق أو على الأقل ذات منصة مرتفعة لرؤية مخطط المركب من الأعلى، ومن الأسفل أيضًا. أحد التصورات المذكورة أن القاعة ستحاكى الحفرة التى وُضع فيها المركب أولًا، أى أن يكون هناك جزء من القاعة يُظهر للزائر كيف كانت الحفرة من حيث الأبعاد، الكتل الحجرية التى كانت تغطيها، وربما نقل بعض هذه الكتل أو محاكاتها. ومن المتوقع أن تكون القاعة مجهزة بتقنيات عرض تفاعلية، مثل الشاشات، العروض المرئية، وربما الصوتيات أو الإضاءة الخاصة، لشرح مراحل الاكتشاف، الترميم، النقل، والأهمية الدينية والثقافية للمركب. أيضًا سيتم عرض المجاديف وربما أجزاء الزينة أو المكونات التى تم تجميعها حديثًا، بحيث يرى الزائر أطراف المركب والتفاصيل وليس فقط الشكل الكلى.