يظل تاريخ الرجال الأبطال صفحات مضيئة في سجل الوطن، ومن بين هؤلاء يبرز اسم الدكتور يسري الجمل وزير التربية والتعليم الأسبق، الذى جمع بين سلاح العلم وسلاح الدفاع عن الوطن. التحق الجمل بسلاح الدفاع الجوي عقب تخرجه فى كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية، قسم الهندسة الكهربية، ليجد نفسه في قلب واحدة من أعقد وأخطر المهام فى تشغيل منظومات الرادار والإنذار المبكر التى مثلت العمود الفقرى لحائط الصواريخ المصري. هذا الدور لم يكن مجرد مهمة عسكرية، بل كان معركة وجود أسهمت في تحطيم أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»، وحماية قوات العبور من هجمات الطيران الإسرائيلي. ومن جبهات القتال إلى مقاعد الوزارة، ظل الدكتور يسرى الجمل مؤمنًا بأن العلم هو خط الدفاع الأول فى مواجهة التحديات، فانتقل من الدفاع عن السماء إلى بناء عقول الأجيال. وبين مشواره العسكرى والوزارى، تتجسد صورة نموذجية لرجل آمن بأن خدمة الوطن لا تقتصر على ميدان واحد، بل تتعدد ميادينها بين البندقية والكتاب، وبين حائط الصواريخ وحجرات الدراسة. وأوضح أنه فى أعقاب نكسة 1967، كان الشباب الجامعي يعيش حالة من التحدى، ويبحث عن أى وسيلة للمشاركة فى معركة استرداد الكرامة. وأكد أن التحاقه بالقوات المسلحة جاء فى إطار التعبئة العامة، حيث وقع عليه الاختيار للانضمام إلى مدرسة الدفاع الجوى، وهناك تخصص في أجهزة الرادار والإنذار المبكر، التى كانت تعد وقتها من أخطر وأدق التخصصات، لأنها العين التى تكشف تحركات العدو وتتيح للصواريخ والمدفعية التعامل معه. ◄ اقرأ أيضًا | العميد ثروت زكي: أبطال أكتوبر خريجو مدرسة «الاستنزاف» وأوضح الجمل أن مصر شرعت عقب حرب الاستنزاف فى بناء ما عُرف ب«حائط الصواريخ»، وهو منظومة دفاعية متكاملة امتدت على طول الجبهة، وأكد أن الحائط لم يكن جدارًا ماديا، بل شبكة من محطات الرادار، ووحدات الصواريخ أرض-جو، والمدفعية المضادة للطائرات، موزعة بشكل مدروس يضمن تغطية كل نقطة فى سماء الجبهة. وأشار إلى أن هذا الحائط كان نتيجة جهد ضخم اشترك فيه مئات المهندسين والفنيين والجنود، حيث جرى وضع كل محطة رادارية وكل وحدة صواريخ وفق خريطة دقيقة لتأمين أكبر نطاق ممكن، وأكد أن قوات الدفاع الجوى بذلك نجحت فى كسر أسطورة التفوق الجوى الإسرائيلى التى ترسخت منذ نكسة 1967، إذ لم تعد طائرات العدو قادرة على العمل بحرية فوق الأراضى المصرية. أوضح الدكتور الجمل أنه قبل اندلاع حرب أكتوبر مباشرة تم استدعاؤه وزملاؤه إلى مواقعهم فى مطار أبوصوير ومناطق تمركز الرادارات، وأكد أن الهدف من هذا الاستدعاء كان رفع أقصى درجات الجاهزية، وإجراء اختبارات دقيقة للتأكد من تكامل منظومة الرادار مع وحدات الصواريخ. وأشار إلى أن الأيام التى سبقت السادس من أكتوبر شهدت نشاطًا مكثفًا، حيث جرى تعديل ترددات التشغيل لتفادى التشويش، وإعادة توزيع بعض المحطات لتأمين مناطق حساسة، بالإضافة إلى اختبارات اتصال متواصلة مع غرف العمليات، هذه الإجراءات خلقت شعورًا عامًا بأن هناك شيئًا كبيرًا يقترب، رغم أن السرية ظلت محكمة حتى اللحظة الأخيرة. وأحد أبرز عناصر نجاح العبور كانت خطة الخداع الاستراتيجى، التى نجحت فى تضليل إسرائيل وإخفاء نوايا الهجوم المصرى، الدفاع الجوى لعب دورًا رئيسيًا فى هذه الخطة، من خلال تغيير أنماط تشغيل الرادار، وخلق إشارات وهمية فى مناطق بعيدة عن الجبهة، بالإضافة إلى تنفيذ ما يعرف ب«الصمت الرادارى» فى أوقات معينة، لإيهام العدو بعدم وجود نشاط فى قطاعات محددة. وأشار إلى أن التعاون الوثيق بين وحدات الرادار والحرب الإلكترونية ساهم فى إرباك طائرات الاستطلاع الإسرائيلية، حتى فقدت القدرة على التمييز بين المواقع الحقيقية والوهمية، إن هذه الخطة نجحت فى حرمان العدو من معلومات دقيقة، وهو ما جعله يتفاجأ تمامًا بالهجوم المصرى يوم السادس من أكتوبر. وأوضح الدكتور الجمل أن دور الدفاع الجوى لم يقتصر على تغطية عملية العبور، بل امتد على طول الجبهة وداخل العمق المصرى، وأن وحدات الصواريخ والرادار كانت بمثابة الدرع الواقى للمطارات والقواعد العسكرية ومراكز الإمداد، بحيث لم يعد العدو قادرًا على ضرب العمق كما كان يفعل من قبل. وأشار إلى أن التكامل بين عناصر الدفاع الجوى حوّل الجبهة إلى منطقة محرّمة على الطيران الإسرائيلى، حتى أن خسائر العدو فى الأيام الثلاثة الأولى من الحرب (6 - 8 أكتوبر) بلغت أكثر من 200 طائرة. وأكد أن يوم السادس من أكتوبر وحده شهد سقوط نحو 50 طائرة إسرائيلية أمام شبكة الدفاع الجوى، وهو ما وصفه المؤرخون بأنه أكبر خسارة جوية فى تاريخ إسرائيل. وأوضح أن هذه الخسائر أجبرت القيادة الإسرائيلية على إعادة النظر فى خططها الجوية، بعدما كانت تراهن على التفوق الجوى المطلق، وأن هذه النتيجة لم تكن لتتحقق لولا الجهد الصامت لرجال الدفاع الجوى الذين عملوا خلف الشاشات وبجوار وحدات الصواريخ فى أصعب الظروف. أكد الدكتور الجمل أن من بين المواقف التى لا تُمحى من ذاكرته، محاولة إسرائيلية لضرب كتائب الدعم فى إحدى المناطق الخلفية. وأوضح أن أجهزة الرادار التقطت إشارات الطائرات المعادية قبل دقائق من وصولها إلى الهدف، ما أتاح للقادة إصدار أوامر فورية بنقل القوات إلى ملاجئ محصنة، وفى نفس الوقت توجيه وحدات الصواريخ والمدفعية للتعامل مع الطائرات. وأشار إلى أن النتيجة كانت إنقاذ العشرات من الأرواح، وإجبار الطائرات المعادية على الانسحاب بعد أن فشلت فى تحقيق أهدافها. وأكد أن هذا الموقف يلخص قيمة الدفاع الجوى، فهو لا يهاجم بشكل مباشر، لكنه يمنع العدو من استغلال قوته ويجبره على التراجع. أوضح الدكتور الجمل أن تجربة الدفاع الجوى تركت أثرًا عميقًا فى شخصيته، فقد علمته أن النجاح لا يصنعه فرد بمفرده، بل هو ثمرة جهد جماعى قائم على التكامل بين جميع العناصر. وأكد أن الانضباط العسكرى والانغماس فى تفاصيل العلم والعمل التقنى كانا السلاح الحقيقى فى مواجهة التفوق التكنولوجى الإسرائيلى. وأشار إلى أن ما تعلمه فى مواقع الرادار والصواريخ نقله لاحقًا إلى حياته المدنية والأكاديمية، سواء فى التدريس الجامعى أو فى وزارة التربية والتعليم، حيث ظل يؤمن أن العلم والانضباط هما الطريق لبناء أجيال قادرة على حماية الوطن. أكد الدكتور يسرى الجمل أن رسالته للأجيال الجديدة هى أن التعلم العميق والتدريب المستمر وروح الفريق هى مفاتيح النجاح فى أى مجال. وأوضح أن مصر لن تتقدم إلا بسواعد أبنائها الذين يجمعون بين المعرفة والالتزام والمسئولية الوطنية. وأشار إلى أن التكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الاصطناعى والشبكات وأنظمة الاستشعار تمثل المستقبل، وأن على الشباب أن يكونوا فى طليعة من يتقن هذه الأدوات لخدمة وطنهم. وأكد أن الأخلاق والانضباط هما ما يمنحان العلم قيمته، وأن الأوطان تُبنى بالعرق والتضحية قبل أى شيء آخر. وأوضح الوزير الاسبق د. الجمل فى ختام شهادته أن رجال الدفاع الجوى كانوا وما زالوا خط الدفاع الأول عن سماء مصر، وأكد أن دورهم غالبًا ما يكون غير مرئى للجمهور، لكنه حاضر فى كل لحظة حماية ومنع للعدو من الاقتراب. وأشار إلى أن فخره الأكبر فى حياته لم يكن منصبه الوزارى، بل كونه جزءًا من جيل بنى حائط الصواريخ وساهم في صنع نصر أكتوبر المجيد.