فى كل دورة من مهرجان الإسكندرية السينمائي، يولد أملٌ جديد فى جيلٍ يحمل شغف السينما وصدق الحكاية؛ جيل يمنحنا لحظاتٍ من الإبداع الممزوج بالحلم والإصرار وهذا العام سعدت برئاسة لجنة تحكيم أفلامٍ حملت بصمة طلابٍ وشبابٍ آمنوا بأن السينما ليست مجرد فن، بل رسالة وحياة. سبعة وثلاثون فيلمًا، بينها أعمال تركت أثرها على الشاشة وفى وجداننا، وكتبت سطورًا فى مسيرة نجاح مبدعيها، وأتوقف هنا أمام «عُدي» للمخرج «محمد عادل حسان» الفائز بجائزة أفضل فيلم فى المسابقة. الفيلم تجربة سينمائية وإنسانية شابة، تحوِّل الذاكرة إلى قصائد بصرية، وتصوغ من وجع التجربة الفلسطينية خطابًا بصريًا عميقًا وجريئًا قادرًا على مخاطبة العالم، من خلال سرد رمزى متماسك يعكس عمق المعاناة الإنسانية وجدلية الذاكرة والعنف، ويقدّم مرافعة فكرية عن «الحق المشروع فى المقاومة»، محذرًا من استمرار دائرة العنف والدم فى ظل انعدام العدالة، ومؤكّدًا أن غياب الدولة الفلسطينية المستقلة يعنى غياب أى فرصة حقيقية للسلام. يأخذنا «عُدي» إلى قلب الحكاية الفلسطينية، لا عبر بيانات أو شعارات سياسية، بل من خلال مشهد لطفولةٍ مهدورة وذاكرةٍ لا تهدأ، وجرحٍ لطفلٍ صغير فقد والديه برصاص الاحتلال، فصار قدره أن يحمل ذاكرةً أكبر من عمره. وينطلق من هذه الشرارة الإنسانية ليبنى سردية بصرية قصيرة المدى لكنها طويلة الأثر، تبرهن على أن السينما حين تخرج من رحم الحقيقة، يمكن أن تتحول إلى فعل مقاومة، وتضعنا أمام سؤالٍ موجع: ماذا يفعل طفلٌ فقد والديه برصاص الاحتلال حين يكبر؟ وأى ملامح للمستقبل يمكن أن ترسم وجهه؟ المشهد داخل البيت الإسرائيلى ليس مجرد فعل انتقام، بل تجسيد لصرخة أجيال تتوارث الألم كما يتوارث الآخرون الأرض والبيوت. يواجه الشاب قاتلى والديه، لكن المخرج يجعل لحظة المواجهة أكبر من مجرد ثأر؛ حينما يُترك الطفل الإسرائيلى على قيد الحياة، فيلتقط السلاح فى إيحاءٍ بصيرورة الدم التى لا تنتهي. وتعود الكاميرا لتستقر على عيونٍ تفيض بالتحدى والكبرياء، وكأنها تعلن أن البقاء الفلسطينى ليس خيارًا، بل قدر. وتبلغ ذروة المشهد حين يتداخل صوت خالد للشاعر محمود درويش قائلاً: «يحاصرنى واقع لا أجيد قراءته». الفيلم ليس مجرد عمل فاز بجائزة، وإنما تجربة سينمائية تبرهن أن السينما حين تخرج من رحم الحقيقة، يمكن أن تتحول إلى فعل مقاومة، وأن وراء كل مشهد دم طفلًا يحلم، وأمًا تنتظر، وحياة سرقت، وذاكرة تقاوم النسيان.