في مشهد سياسي غالبًا ما تطغى عليه الاستقطابات الحادة، يظل هناك تيار ثالث، لا يميل إلى الإفراط ولا إلى التفريط، لا ينتمي إلى الموالاة الصريحة ولا المعارضة المطلقة. هذا التيار هو ما يمكن تسميته ب"التيار المعتدل" أو "التيار الوسطي"، الذي يمثل حالة من التوازن والرشادة السياسية، ويشكّل ضرورة حيوية لأي حياة سياسية ناضجة. - التيار المعتدل فهم خارج ثنائية التأييد والمعارضة في كل مجتمع سياسي، يتواجد من لا يرى نفسه مندمجًا كليًا في معسكر الموالاة، ولا ينضوي بالكامل تحت راية المعارضة. إنه التيار الذي يتعامل مع القضايا بعقلانية، وينتمي إلى فكر لا يقدّس الأشخاص ولا يتحزّب للأفكار بشكل أعمى، حتى وإن كان قريبًا منها. هذا التيار غالبًا ما يربك الأطراف المتشددة من الجانبين؛ إذ لا تستطيع أن تصنفه بسهولة، ولا تقدر على احتوائه، بل تسعى في آنٍ لاستقطابه واستبعاده. إنه التيار الذي ينجح أفراده في تحقيق التوازن النفسي أولًا، فينتصرون على أهواء الانتماء، ويقدّمون المصلحة العامة على الولاء الأيديولوجي أو الشخصي. وقد عرّفته العلوم السياسية باسم "التيار الوسطي" أو "المعتدل"، في مقابل التيارات اليمينية واليسارية، حتى مع تطور التصنيفات إلى يمين متشدد ويسار متشدد، بقي هو في المنتصف يحمل عنوانًا واحدًا: "الوسط". كما قال الله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" فلا شيء يعدل الاعتدال، ولا قيمة تُضاهي الاتزان. - العمل السياسي ليس مهنة بل صلاحية ومسؤولية ثمة خلط كبير بين مفهومي "المهنة" و"العمل السياسي". فليس هناك ما يسمى بمهنة السياسي، فالسياسة لا تُمارس بوصفها وظيفة يكتسب منها المرء دخلًا، بل هي مسؤولية تطوعية، تُبنى على الكفاءة والخبرة والرؤية، ويؤديها صاحبها من منطلق الواجب، لا المنفعة. السياسي الحقيقي هو من يخدم مجتمعه وفق ما تتيحه له صلاحياته القانونية، سواء كان في موقع تنفيذي، تشريعي، أو حزبي. أما حين تقترن السياسة بالمنافع والمكاسب المادية، فهي تخرج من كونها عملًا عامًا إلى أن تصبح استرزاقًا يُدرج تحت بند الفساد، ويُعاقب عليه القانون، خصوصًا في حالة النواب وأعضاء المجالس التشريعية. ولذا، حينما نلوم انتشار الفساد أو غياب الكفاءة، علينا أولًا أن نراجع اختياراتنا، فنحن من نُعلي من قدر من يقدّم لنا خدمات خاصة على حساب الكفاءة العامة، ثم نشتكي من ضعف الأداء، متناسين أننا دفعنا إلى الواجهة من لا يستحق. - السياسي والخدمي مفهومان لا يتطابقان من أكثر ما يثير الالتباس في المشهد العام، هو الخلط بين العمل السياسي والعمل الخدمي. فليس كل من قدّم خدمة تطوعية لمجتمعه سياسيًا، كما أن السياسي ليس بالضرورة من يباشر تقديم الخدمات بنفسه. السياسة رؤية وبرامج وخطط تُرسم من أجل المستقبل. أما تقديم خدمة آنية، كترميم مدرسة أو تمهيد طريق، فهذا يدخل في نطاق العمل الخدمي، لا السياسي. الفرق بين الاثنين كالفرق بين المهندس الاستشاري الذي يخطط، والمهندس التنفيذي الذي ينفذ. كلاهما ضروري، لكن الأدوار مختلفة. نعم، قد يجتمع الدوران في شخص واحد، لكن يجب أن ندرك أن تقديم الخدمة لا يعني بالضرورة وجود فكر سياسي، وأن السياسي ليس ملزمًا بالانخراط في العمل التنفيذي المباشر. - نُضجنا السياسي يبدأ من وعينا إذا أردنا لمجتمعاتنا أن تنهض، يجب أن نُعيد النظر في مفاهيمنا السياسية، وأن نتحرر من منطق "الخدمات مقابل الولاء"، و"المصلحة الشخصية قبل الصالح العام". علينا أن نميّز بين السياسي والمستفيد، بين الخدمي والانتهازي، وأن ندرك أن الاعتدال السياسي ليس ضعفًا، بل قوة موزونة تحفظ الاتزان وتجنّب المجتمعات الانهيارات المتكررة. نحتاج إلى سياسيين لا يعملون من أجل المكاسب، بل من أجل الوطن نحتاج إلى وعي شعبي لا يُكافئ الفساد ولا يختار الرداءة. والبداية تبدأ من فهم الفارق .. بين العمل السياسي، والعمل الخدمي . كاتب المقال : كاتب ومفكر سياسي ونائب برلماني سابق