هل في مصر تيار علماني حقيقي بمعنى العلمانية التي تنبذ دور الدين في الحياة العامة والسياسية، ويريد لمصر أن تتحول إلى دولة منفلتة متحررة من كل القيم؟ وهل في مصر تيار ديني متطرف يريد أن تتحول مصر—كما يقولون— إلى قندهار أو إيران؟ الإجابة السهلة أن نقول نعم للسؤالين بسبب وجود أفراد أو نخب على الجهتين تدعو إلى مثل ذلك. ولكن إن أردنا أن نبحث عن طبيعة الشعب المصري وتركيبته الفكرية والعقدية لوجدنا أن هذا الاستقطاب مصطنع. نعم بالتأكيد يوجد بعض الشخصيات في مصر تريد دولة متحررة من كل القيم، وهناك شخصيات تريد مصر دولة متشددة مغالية تحت شعار الدين، ولكن لا توجد تيارات عامة متكاملة بين الشعب المصري تؤيد تلك الأفكار بمثل هذه الفجاجة التي يتصورها البعض. لا يوجد تيار مصري كامل يؤمن بالكفر بالأديان مثلاً، بل أنه من النادر في حياة المصريين أن نرى شخصاً يعلن كفره بالإسلام أو المسيحية، المجتمع المصري بطبيعته محافظ ويقدر قيمة الدين، وحتى عندما تنادي قيادات العلمانية في مصر بالدولة المدنية، فإن أغلب تلك القيادات تؤكد عدم اعتراضها على الدين أو التدين أو المفاهيم الأخلاقية للمجتمع المصري. من يتعرف على الأفكار العلمانية في مصادرها الأصلية في الغرب مثلا لا يمكن أن يصنف مثل تلك الشخصيات المصرية على أنها علمانية بحق، وكان هذا قول أكثر من مفكر غربي علماني عندما يتحدث عن الأفكار العلمانية في المنطقة العربية بالعموم. إنهم يرونها أفكاراً علمانية ليست أصيلة بسبب امتزاجها بطبائع وأخلاق الشعوب العربية والمصرية التي لا تقبل الانصياع لأفكار التحرر الإباحية والاقصائية للدين عن الحياة وعن المجتمع. كما أنه لا يوجد تيار مصري كامل يؤيد فكرة أن تصبح مصر دولة "غلو" و"ملالي" ، فالمجتمع المصري بطبيعته وسطي لا ينحى نحو الغلو المرفوض في الأديان، وحتى عندما تبرز بعض الشخصيات الدينية لتنادي بدولة دينية على نمط قندهار أو إيران—كما يستخدم المثال دائماً—فإن أغلب الشعب المصري لا يرحب بتلك الأفكار بل يتأمل ويشير إلى نماذج أكثر وسطية للتعامل مع تطبيق الإسلام في الحياة في نظام دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، ولذا يوصف الشعب المصري بين الشعوب التي تميل إلى التطرف والتشدد أنه شعب متساهل، وهو في الحقيقة أقرب للوسطية والاعتدال بالمفهوم الصحيح للدين. نؤكد أن هناك شخصيات متطرفة ومغالية من الزاوية العلمانية ومن الزاوية الدينية أيضاً، ولكنها حالات فردية لا ترقى لوجود تيار متكامل بمؤسساته وآليات عمله، ولا تحظى تلك التيارات بأي تأييد شعبي حقيقي، وإنما ينحى غلاة العلمانيين إلى نسبة كل من يؤمن بالدولة المدنية لهم، وهذا افتراء! كما ينحى بعض غلاة المتدينين إلى نسبة كل من يلتزم بالدين لهم، وهذا أيضاً افتراء! يجب التأكيد أن واقع مصر وتاريخها ومستقبلها أيضاً لا ينحى إلى التطرف والغلو، وإنما مصر كانت وستظل وسطية. لا ننكر وجود رموز للتطرف سواء في الجانب العلماني أو الجانب الديني في مصر، ولكنهم أقلية أولاً، ولا يوجد لهم تيارات شعبية مؤيدة لهم ثانياً، وليس لهم قبول اجتماعي فعلي ثالثاً. الأمر الآخر، يجب على تيارات الاعتدال في الجانبين التحالف معاً ضد الغلو والتطرف في الجانبين، وبذلك يقوى تيار الوسط السياسي المصري بجناحين: الأول هو جناح يرى أهمية الدولة المدنية دون أن تصادم هذه الدولة قيم الدين وعقائده، وهي التيارات غير الإسلامية المعتدلة ( ليبراليين ويساريين وقوميين) في مقابل جناح وسطي أيضاً يرى أهمية الدين في الحياة العامة، وأنه المصدر الرئيس للتشريع في مصر المستقبل، ولكنه لا يصادم مبادئ الدولة المدنية بل يعتنقها لأنها تمثل التصور العملي للدولة بالنسبة له. من مصلحة مصر أن تتحاور وتتعاون تيارات الوسط السياسي على أن يتحد التيار الديني مع رموز الغلو الديني المعادية للدولة المدنية، في مقابل أن اتحاد التيارات الليبرالية واليسارية والقومية المعتدلة مع رموز التيارات العلمانية المعادية للدين. عندما تتعاون تيارات الوسط السياسي بجناحية تقوى شوكة مصر، وعندما ينجاز كل جناح ليتحد مع رموز التطرف عنده تخسر مصر شعباً ودولة ومجتمعاُ. نرى أن كل جناح مكلف هو بالتعامل مع التطرف والغلو المرتبط به. فالأولى أن يتولى التيار الليبرالي الوسطي في مصر محاربة رموز العلمانية الفجة والمتطرفة وبيان فساد ذلك الفكر وعدم ملائمته للحياة المصرية. والأولى أن يتولى التيار المتدين الوسطي محاربة رموز الغلو والتشدد والتطرف التي تنشأ حوله وبيان فساد تلك الأفكار والعقائد ومخالفتها لصحيح الدين. وكل تيار أقدر على تنقية صفوفه من التطرف الذي يمكن ان يعلق بهذه الصفوف. ليس معنى أن يتعاون التيار الإسلامي المعتدل مع التيارات العلمانية واللغير إسلامية المعتدلة أنهما متفقان، أو أن منطلقاتهما واحدة، أو حتى أن رؤيتهما لمستقبل مصر واحدة، بل أن التنافس بينهما هو ما سيجعل مصر دولة أفضل للجميع. ولكن التعاون المقصود هنا هو تقوية تيار الوسط السياسي العام في مصر، ومحاربة ونبذ ظواهر التطرف والغلو. من السهل في أوقات القهر أن ينحاز كل جناح من أجنحة الوسط السياسي إلى الجانب المتشدد فيه، ولكن لا يمكن بناء دولة عصرية ملتزمة بقيمها وهويتها على التشدد أو الغلو الذي لم ينجح على مر التاريخ إلا في إنشاء دول هامشية هشة تنهار بأسرع مما تستقر. إن مصر الحرة لن تبنى إلا بتكاتف أبناء شعبها، يجب ألا نبرر لرموز الغلو شططها، ولا نعتذر لها عنه، ولا نعطيه شرعية فكرية أو سياسية، فالغلو منبوذ مكروه في كل أحواله، ومحرم في الأديان، وغير مقبول في النظريات المدنية للحكم كذلك؛ فلنتحد على رفض الغلو من أي جهة وتحت أي مبرر.