عاد مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط إلى حضن عروس البحر من جديد، برئاسة الصديق الناقد السينمائي الأمير أباظة، ليشعل شمعته الحادية والأربعين، مؤكداً حضوره كأحد أعرق المهرجانات العربية، وأكثرها التصاقاً بالهوية المتوسطية، ففي قلب الإسكندرية، المدينة التي جمعت عبر تاريخها بين الحضارات واللغات والثقافات، عاد المهرجان ليكتب فصلاً جديداً من رحلته التي تمتد لأربعة عقود، جامعاً بين السينما كفنٍ إنساني وبين المدينة كفضاء للتاريخ والذاكرة. الافتتاح الذي أقيم في مكتبة الإسكندرية لم يكن مجرد انطلاقة لدورة جديدة، بل بدا وكأنه عودة لروح المدينة ذاتها، حين تلتقي على شواطئها أصوات الفنانين وصناع السينما من مصر والعالم العربي ودول المتوسط، في لحظة احتفاء جماعي بالفن السابع، وبالإسكندرية كعاصمة ثقافية عابرة للزمن. وجاء الافتتاح ليؤكد مرة أخرى هوية المهرجان الراسخة: مهرجان مخلص لفكرته وبيئته، يسعى إلى أن يكون احتفالية سينمائية بملامح ثقافية مصرية ومتوسطية في آن واحد. انطلق حفل الإفتتاح بأغنية ترحيبية حملت طابعاً متوسطياً خالصاً، جمعت بين المطربة اليونانية مارلينا روسوغلو والفنانة المصرية فاطمة محمد علي، هذا المزج الغنائي بين ضفتين من ضفاف المتوسط بدا كأنه تجسيد مباشر لرسالة المهرجان:الفن وسيلة للتلاقي، لا للفصل، والسينما مساحة مشتركة تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة. اللحظة الأبرز في الحفل كانت بلا شك تكريم الفنانة الكبيرة ليلى علوي، التي تحمل الدورة اسمها. فحين صعدت صديقتها النجمة إلهام شاهين لتسليمها علم الدورة، غلبت العاطفة على الموقف، ولم تتمالك ليلى دموعها وهي تتذكر أهلها ودعمهم لمسيرتها الفنية، هذه الدموع لم تكن مجرد انفعال عابر، بل صورة بليغة لنجمة يُكرّمها المهرجان باعتبارها "أيقونة للفن المصري"، وصوتها الذي دعا للسلام والاستقلال لفلسطين وغزة أضاف بعداً إنسانياً وسياسياً للحظة. وحين طلب الجمهور من الفنانة فردوس عبد الحميد أثناء صعودها لتسلم درع تكريمها أن تغني مقطعاً من "بتغني لمين يا حمام"، التي قدمتها بصوتها في مسلسل"ليلة القبض علي فاطمة وهي من كلمات سيد حجاب ومن ألحان عمار الشريعي ، لم يتردد قلبها ولا صوتها. ارتفع اللحن في القاعة كأنه استدعاء لذاكرة ممتدة من المسرح الغنائي والدراما الشعبية المصرية، هذا المقطع البسيط كان بمثابة إعادة وصل بين جيل كامل من الفنانين والجمهور الذي لا يزال يحتفظ بالأغنية في وجدانه. في لحظة استثنائية، ارتفعت قاعة مكتبة الإسكندرية بالتصفيق الحار احتفاءً بالفنان أحمد رزق، بدا تكريمه أشبه بعودة الابن إلى حضن مدينته.. رزق لم يكتفِ بكلمات شكر تقليدية، بل وجه رسالة إلى شباب الإسكندرية قال فيها: "السوشيال ميديا لن تفيدكم.. القراءة هي الأساس". هذه العبارة، القادمة من فنان بدأ خطواته حالماً بلقاء النجوم في المهرجان نفسه، تحولت إلى درس عملي عن قيمة المعرفة والجهد في مواجهة إغراءات الشهرة السريعة. اقرأ أيضا| شمس البارودي تكشف سر توقفها عن الاحتفال بعيد ميلادها لم يقتصر التكريم على النجوم الأحياء، بل امتد ليشمل الذاكرة الغائبة، حيث تسلمت إيمان بدر الدين درع تكريم والدتها الراحلة فيروز، مؤكدة أن "قلة الأعمال لا تعني قلة الأثر". فيما أهدى المخرج هاني لاشين تكريمه إلى عمر الشريف، معترفاً بفضله في مشواره الفني، أما المخرج التونسي رضا الباهي فقد قرأ تكريمه باعتباره "كسراً لليأس"، موجهاً رسالة بأن السينما قادرة على أن تمنح أملاً في لحظات الانكسار. توزعت التكريمات بين أسماء كبيرة مثل شيرين، فردوس عبد الحميد، ورياض الخولي، وبين جيل أصغر يمثله أحمد رزق، إضافة إلى مخرجين عرب بارزين كرضا الباهي، ومخرجين وفنانين من المتوسط في محيطه الأوربي" المخرج المغربي الفرنسي حكيم بلعباس، المخرج الفرنسي جين بيير آماريس الكاتبة الإسبانية مرسيدس أورتيغا"، هذا التنوع أعطى الحفل صورة جميلة تجمع بين أجيال وتجارب مختلفة، ليبدو المشهد وكأنه لوحة تذكّر بامتداد الذاكرة الفنية عبر الزمن. واتوقف قليلا امام تكريم الفنان رياض الخولي ، والذي يعتبر هذا التكريم بمثابة احتفاء مُستحق لمسيرة طويلة من العطاء الفني، امتدت عبر السينما والدراما التلفزيونية، الخولي، الذي عرفه الجمهور كأحد أبرز الممثلين ذوي الملامح المميزة والحضور الطاغي، لم يكتفِ يوماً بأدوار نمطية، بل صنع شخصية متفردة في كل ظهور له، سواء في الكوميديا أو التراجيديا، وما جعل لحظة تكريمه مؤثرة ، وعبر الخولي بصدق عن قيمة هذا التقدير، قائلاً إن "التكريم للفنان وهو على قيد الحياة يمنحه سعادة وقدرة على مواجهة الصعاب"،هذه الجملة البسيطة تختصر فلسفة فنان عاش طويلاً في قلب الوسط الفني دون ضجيج، وأثبت أن النجومية لا تقاس فقط بعدد البطولات، بل بصدق الأداء وعمقه وتكريم رياض الخولي ليس مجرد درع يُمنح لفنان، بل هو إعادة اعتبار لقيمة "الممثل الحقيقي"، الذي لم يبحث عن أضواء زائفة، بل اكتفى بأن يترك بصمته في ذاكرة الناس عبر الصدق الفني يمكن القول إن افتتاح الدورة ال41 لمهرجان الإسكندرية لم يكن عرضاً استعراضياً مبالغاً فيه، بقدر ما كان عرضاً لهوية المهرجان نفسه: مهرجان يراهن على الذاكرة، على الصدق الإنساني في لحظات الدموع والغناء، وعلى الوعي الثقافي في كلمات المكرمين ورسائلهم.. وبينما تمتلئ بعض المهرجانات بالبريق والسطوع، ظل مهرجان الإسكندرية وفياً لصورته: حدث ثقافي عميق، يحمل روح البحر المتوسط، ويمنح السينما مكانتها كفنٍ قادر على أن يوحّد الشعوب ويكتب ذاكرتها.