سلوان البرى فى طفولتى، أخبرتنى جدتى كيف أمكنها إدارة حياتها، طوال عدة عقود! كيف تمكَّنت من تأسيس المنزل الذى أرادَتْ، كيف واظبت -دون كلل- على جلى الأطباق، وهدهدة الأطفال، وسقاية نباتات حديقتها الصغيرة. أخبرتنى كيف استطاعت أن تحتمل غلظة الزوج، وكيف صبرت على طيش الأبناء، قلة النقود...وبرودة شتاء الليالى الطويلة! الأمر بسيط جدا -كما حكَت- ولا يحتاج لكثيرِ مهارة.. «إنه البحر -يا طفلتى- حيث كان يمكننى أن أهرب متى أردتْ! فى كل صيفٍ كنتُ أذهب لأراه.. وبدلاً من أن أستلقى على شاطئه، كما يفعل مرتادوه وقت الظهيرة.. قررت أن أهرب إليه فى ساعة الشفق! بينما ينام الآخرون..أستيقظ أنا! أهرع إليه وحدى...» أخبرتنى أنها لمحت جدى فى إحدى مرات هروبها المتكررة للبحر الصديق، كان يتتبعها.. «يجب علىَّ حمايتك، لن أتركك تخرجين وحدك!» هكذا أخبرها بما يعنى أنه سيكون متواجدا طوال الوقت يرقبُها، ليحميها! حيث لا يمكنها أن تظل وحيدة.. نشأ جدى فى بيئة لا تعترف بقيمة السيدات.. لا ترى فيهن شيئاً سوى أنهن تابعات.. والتابعات لا يُسمح لهن ولو بقليل من الوحدة أو التحرر.. تابعات حتى الموت! لم أستطع الهروب من جدك.. ولكننى تدربت بمرور الوقت على كيفية احتمال فكرة حضوره الدائم.. حيث لا سبيل للهرب.. تعلمت كيف أتقبل كونى الذى أراد. أو هكذا علمنى البحر....! توالت الأعوام، وفى كل عام، كنت أنتظر مجىء الصيف.. فقط حتى يتسنى لى السفر ورؤية الأمواج.. هناك، حيث يمكننى أن أتجرد من كل ملابسى ومقتنياتى، وأسبح مع تياره... تبتلعنى الأمواج حتى أتمنى للحظات لو أننى غريقة للأبد.. غريقة لا تطفو جثتها.. غريقة لا قبر لها.. غريقة لا سيطرة عليها.. لقد علمنى البحر أنه يمكنننى أن أتجرد من مسئولية كل الأشياء.. نفسى.. أولادى..حياتى بأسرها! كل شىء ماعدا جدك! حتى المياه لم تسمح لى بالهرب منه.. كان يجلس قابعًا فوق الرمال... «يحرسنى»! فى الحقيقة هو لم يكن «يحرسنى» بل كان يمنعنى من الفرار! كان يذكرنى بقانونه الأبدى.. «أنتِ لى». «لن تتحررى..لن تموتى قبلى.. ستظلين فى حوزتى للأبد!» لقد تجرعت مرارة اصطبارى كل تلك الأعوام.. فقط من أجل رؤية البحر عدة أيام فى السنة! الآن، ذهب جدُّك للأبد.. الآن، يمكننى الذهاب أينما شئت.. إلا أننى اكتشفت أنه لا قدرة لى.. فأنا -الآن- امرأةٌ هَرِمَة. أن تكونى تابعةً، هذا يعنى أنه لا حرية لكِ أبداً! الآن، أمكننى أن أفهم نفسية العبيد الذين بقوا بحوزة مالكيهم بعد إلغاء الرقّ.. إلى أين يمكنهم الذهاب؟! لم يعد هناك ما يفرون إليه! لم يعد لديهم رغبة.. ولم تبقَ فيهم حياة! مات مالكى..كبر أبنائى.. وجف شبابى.. أتعلمين؟ الآن لم أعد أتخيل البحر.. الأمر فى رأسى يشبه ذكرى بعيدة لبقعة من المياه.. جفت مع عوامل الزمن! كلانا جفّ.. أنا والبحر.. لقد كان البحر شبابى يا طفلتى. والآن جف كلانا. الآن أنا سيدة كبيرة.. أقف فى مطبخ كبير، يشبه مطبخ جدتى.. أعدُّ الطعام .. أتناول القهوة.. وأرقب انبعاث دخان سيجارتى للبعيد.. أرى جدتى.. أرى البحر.. وأرانى .. امرأة جافة.. تعلمَتْ كيف تصير بمرور الوقت، مالكة نفسها، حيث لا بحر ولا نهر يصلح مهربًا لها! إلا أننى فى بعض الأحيان أرانى.. مثل جدتى.. مجرد تابعة.. تنتظر مجىء الصيف تنتظر رؤية البحر.. تنتظر الفرار.. أترون؟ هكذا نحن النسوة.. نحيا فى دوائر من الفرار.. وما بين كل دائرة ودائرة، ننضج نرى أنفسنا نجونا لمجرد أننا لا نشبه أمهاتنا وجداتنا! ولكننا فى الحقيقة نشبههم.. أنا وجدتى لا فرق كبير بيننا.. سوى أنها آمنت منذ زمن بعيد أنه لا مفرّ! بينما أنا أستيقظ كل صباحٍ وأنا مؤمنة بوجود طريقة ما للفرار.. للبحث عن ذاتى.. عن كيانى.. عن أحلامى.. عن نهاية أخرى غير نهاية جدتى.. أترون؟ جميعنا نفس السيدة.. ولكن من منا تملك جرأة الاعتراف بأنها ليست هى! كلنا ذات الجدة (التابعة) وإن اختلف المتبوع! مَن منَّا لا بحر لديها؟ من مِنا امرأةٌ حرة؟!