بمشاركة مليوني طالب وطالبة.. الأزهر يكرّم أوائل «تحدي القراءة العربي» في موسمه ال9    لليوم ال23.. «البترول» تواصل قراءة عداد الغاز للمنازل لشهر مايو 2025    ياسمين فؤاد سكرتيرا تنفيذيا لإتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر    بينهم 3 أطفال.. ارتفاع عدد شهداء مجزرة الاحتلال بحق عائلة دردونة في جباليا البلد ل 14    القاهرة الإخبارية: الاحتلال استهدف أهالي حاولوا الوصول إلى شاحنات المساعدات    رسميا.. ريال مدريد يعلن رحيل أنشيلوتي    سقوط المتهم بإدارة مسكنه لتزوير المحررات الرسمية بالشرقية    ضبط سيدة بصحبتها 5 أطفال لقيامهم بالتسول بالشروق    علم الوثائق والأرشيف، أحدث إصدارات هيئة الكتاب    فيديوجراف| 3 أسرار تكشف حقيقة انفصال أحمد السقا ومها الصغير    منها «استقبال القبلة وإخفاء آلة الذبح».. «الإفتاء» توضح آداب ذبح الأضحية    قيادات التأمين الصحي الشامل في زيارة إلى أسوان لمتابعة تطبيق المنظومة    محافظ الجيزة: الانتهاء من إعداد المخططات الاستراتيجية العامة ل11 مدينة و160 قرية    إنجاز مصري عالمي جديد في علاج الانزلاق الغضروفي بدون جراحة بقيادة الدكتور أحمد رأفت السيد    البريد المصري يحذر المواطنين من حملات احتيال إلكترونية جديدة    رقصت مع غوريلا وتوليت.. خفة ظل ومرح أسماء جلال في عيد ميلادها ال30 (صور)    "فيفا" يعلن استمرار إيقاف القيد عن 7 أندية مصرية.. ورفع العقوبة عن الزمالك بعد تسوية النزاعات    أمين الفتوى: التدخين حرام والمدخن سيواجه هذا السؤال يوم القيامة (فيديو)    المشاط تشارك بجلسة نقاشية حول تجنب فخ الدخل المتوسط بالدول أعضاء البنك الإسلامي    غدًا.. جلسة عامة لمناقشة مشروع قانون تعديل بعض أحكام "الشيوخ"    محافظ الأقصر يؤدي صلاة الجمعة بمسجد سيدي أبوالحجاج الأقصري    قيادات هيئة التأمين الشامل تتفقد جاهزية محافظة أسوان لبدء تطبيق المنظومة    استمرار تدفق الأقماح المحلية لشون وصوامع الشرقية    بالبالونات، انطلاق لقاء الجمعة للأطفال في مسجد الشهداء بالدقهلية (صور)    أرني سلوت ينتقد ألكسندر أرنولد بسبب تراجع مستواه في التدريبات    أسعار الحديد والأسمنت اليوم فى مصر 23-5-2025    طفل يطعن زميله فى مدرسة بألمانيا ويفر هاربا    شرطة الاحتلال تعتقل 4 متظاهرين ضد الحكومة بسبب فشل إتمام صفقة المحتجزين    على غرار اليابان.. نائب أمريكي يدعو لقصف غزة بالنووي    « وزارة الصحة » : تعلن عن خطة التأمين الطبي للساحل الشمالي والعلمين بفصل الصيف    "بئر غرس" بالمدينة المنورة.. ماء أحبه الرسول الكريم وأوصى أن يُغسَّل منه    رئيس "التنظيم والإدارة" يبحث مع "القومي للطفولة" تعزيز التعاون    إيرادات فيلم سيكو سيكو تتراجع في دور العرض المصرية.. لليوم الثاني على التوالي    غلق كلي لطريق الواحات بسبب أعمال كوبري زويل.. وتحويلات مرورية لمدة يومين    رئيس بعثة الحج الرسمية: وصول 9360 حاجا من بعثة القرعة إلى مكة المكرمة وسط استعدادات مكثفة (صور)    الدوري الإيطالي.. كونتي يقترب من تحقيق إنجاز تاريخي مع نابولي    الحوثيون يعلنون استهداف مطار بن جوريون بصاروخ باليستي    صلاح يتوج بجائزة أفضل لاعب في البريميرليج من «بي بي سي»    شاب ينهي حياته بأقراص سامة بسبب خلافات أسرية    الأرصاد تحذر من حالة الطقس: موجة حارة تضرب البلاد.. وذروتها في هذا الموعد (فيديو)    المشروع x ل كريم عبد العزيز يتجاوز ال8 ملايين جنيه فى يومى عرض    أسعار الفاكهة اليوم الجمعة 23 مايو في سوق العبور للجملة    ضبط 379 قضية مخدرات وتنفيذ 88 ألف حكم قضائى فى 24 ساعة    محافظ سوهاج يفتتح ميدان سيتي بعد تطويره ويتفقد مشروعات التجميل بالمدينة    يدخل دخول رحمة.. عضو ب«الأزهر للفتوى»: يُستحب للإنسان البدء بالبسملة في كل أمر    عمر مرموش يهدد رقم فودين فى قائمة هدافى مانشستر سيتى    رئيس الأركان الإسرائيلي يستدعي رئيس «الشاباك» الجديد    الهلال يفاوض أوسيمين    رمضان يدفع الملايين.. تسوية قضائية بين الفنان وMBC    الخارجية: الاتحاد الأفريقى يعتمد ترشيح خالد العنانى لمنصب مدير عام يونسكو    زلزال بقوة 6.3 درجة يهز جزيرة سومطرة الإندونيسية    دينا فؤاد تبكي على الهواء.. ما السبب؟ (فيديو)    نموذج امتحان مادة الmath للصف الثالث الإعدادي الترم الثاني بالقاهرة    بمشاركة منتخب مصر.. اللجنة المنظمة: جوائز كأس العرب ستتجاوز 36.5 مليون دولار    نجم الزمالك السابق: ما يحدث لا يليق بالكرة المصرية    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    «تعليم القاهرة» يختتم مراجعات البث المباشر لطلاب الشهادة الإعدادية    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهلا يا أنا
قارب العشق يبحث عن ميناء
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 10 - 2015

في قلبي قارب عشق يحملني إلي مدن الحنان التي أشتاق إليها. وهاهو القارب يشق أمواج بحور التذكار ليضعني أمام بعض من وقائع أيام العمر التي تتشابه مع موج البحر ومع قوانين ميلاد الشمس وغروبها, ومع تقلب وجوه من يحكموننا, فالخاص في حياة أي منا يكون انعكاسا للعام من أحوال الكون أو المجتمع. بدت تلك الحقيقة يقينية الميلاد في حياتي منذ ذلك الصباح القديم لنهار خريفي حين كنت أقطع صباحي السكندري بخطواتي في الشارع الفاصل بين مقابر الأجانب وحدائق الشلالات,
وكنت دائم التحية لتمثال الفنان رودان الذي يحمل جثمان ثري سكندري من أثريائها الأجانب, وأعلم أن الشارع ينتهي بشريط الترام ثم بكورنيش البحر المتميز في تلك المنطقة بكازينو الشاطبي المعلق علي أعمدة خرسانية داخل البحر.
وكثيرا ما تمنيت أن أملك بيتا في هذا الشارع, لكنه شارع بلا بيوت, مقابر علي اليمين وأشجار علي الشمال, وأسلفت يظهر من فتحات الكوبري الموجود بالقرب منه.
ولايمكن أن أتخيل المكان وأنسي لحظات السير فيه وأنا أمسك بكف يدي بسيدة حلمي الذي أفتقده حاليا رحاب; التي زاملتني بآداب الإسكندرية التي صار مبناها القديم هو مقر الجامعة حاليا, وكان صوت أستاذ الفلسفة د. أبو العلا عفيقي يشرح قول أحد الفلاسفة يلوح أن الزمان غير موجود.. وإن كان موجودا فوجوده ناقص أي أن أحدا منا لا يعلم متي ينتهي الزمن; فضلا عن أن الزمن يجري ويدور وقد نلتفت لجريه ودورانه. وحين سمعنا ذلك_ رحاب وأنا_ كان قد مضي علي إعتراف كلينا_ رحاب وأنا_ بالحب أسبوع واحد. وسرنا في هذا الشارع وكل منا تسري في جسده موسيقي ترتفع به عن الأرض. سألتني رحاب هل فهمت أنت عبارة هذا الفيلسوف ؟ أجبتها نعم.. فهمتها. لقد شاء أن يلفتنا إلي أن الزمن لايمكن إمساكه كشيء مادي في أيدينا, فهو افتراضي, ولكنه يسير بنا كقارب إلي حيث نختار. تابعت رحاب لكن متي ينتهي الزمن ؟ أجبت جادا: حين يضمنا بيت صغير.. سينتهي زمن ليبدأ زمن جديد, وسيكون هناك كائنان جديدان هما أنا وأنت.
وفي لحظة قولي تراءت أمواج شاطئ البحر التي تضرب في أعمدة الأسمنت الحاملة للكازينو العجيب. وبدت حركة الموج الموسيقية تصل إلي السمع. والتفت إلي أن الجو لم يكن دافئا كما كانت ألوان السماء الرمادية تنذر بعاصفة من الرعد والمطر. ومن أصوات البحر المقتربة, رحت أتأكد أن ثيابي وثيابها تناسب جو الشتاء الزاحف, وهل تقينا من لفحات الهواء أم لا؟ وإندهشت لأنها فكرت في نفس ما أفكر فيه. ثم ابتسمت هي ليطل بريق الحلم بالمستقبل, وسألتني بخجل هل دققت النظر في لوني فردتي الجورب قبل أن تنزل من بيتكم ؟. رفعت قماش رجل البنطلون لتقع عيوني علي لون جواربي, فقد كانت مختلفة الألوان, ذلك أني قمت مسرعا لأرتدي ملابسي, وأنا أملك ثقة في أننا سنخرج معا بعد انتهاء المحاضرة فهي من شاء قلبي أن يستقر علي الانسجام معها كما شاء قلبها علي الانسجام معي.
وقررت أن أصحبها إلي رحلة فيما أراه في أعماقي, وكنا علي أعتاب الكازينو الذي يزلزل الموج الأعمدة التي تحمله. بدأت أحكي لها عن ذلك الطفل الصغير الذي بدا كأن احدا قد كرمش وجوده قبل أن يحبسه في ركن أعماقي. وأن هذا الطفل هو أنا. وهو الذي من فرحته بأننا سنخرج معا, جعلني لا ألحظ إختلاف لون فردتي الجورب. ضحكت من قلبها, قائلة أنها لم تنس سابق إعجابي بالبلوفر الأزرق الذي قررت أن ترتديه اليوم.
شرحت لها ما سبق وحدثني به أستاذ علم النفس د. سعد جلال بأن كل إنسان تزدحم أعماقه بكثير من الشخصيات. وأن أيا منا يولد كل لحظة وفي داخله قابلية لإعادة تشكيله في القالب المناسب للظروف التي تحيط به. فلحظة ترتفع في خلايا المخ بعض من الهرمونات فتلمع البشرة بأحاسيس الحب, واحيانا أخري يرتفع الإدرنالين في الجسد, فيزدحم الكائن البشري بالتوتر.
أجابتني معك أنت طفلي المحبوب والشاب الناجح, معك أنت أكون سعيدة, رغم أنك الخائف من أن أطرده خارج قلبي, ولا أعلم لماذا تنسي أنك الأمير علي عرش قلبي.
كانت سعادتي بغير حد من جراءة ووضوح عاطفتها وثقة التعبير الفوري عما تحسه, وطبعا كان من التلقائي جدا والطبيعي أن أتوهج قلقا علي رؤية نفسي في عينيها; تلك الحلوة التي تدرس معي, وهي الفلسطينية القادمة من بيوت كفر حنه الموجودة بالناصرة, قرية المسيح عليه السلام, حيث قام المسيح بتحويل المياه إلي خمر. وكلما احتضنتها عيوني بدت لي كلوحة عمري والتي يمتد الحنان من عيونها كأنهار الضوء وتطل من بشرتها كل أزهار الربيع الذي لا يمل أبدا من إضفاء العطر ومنح الرحيق. ولا أعلم لماذا توهمت أنها قادرة علي تصديق أني قادر علي أن أغزل لها من دمي بيتا من خيوط الذهب وجدرانه فضة وضوؤه من لؤلؤ ومرجان.
وهكذا توهج كلانا بالحلم.
ولم ينس أي منا كيف قررنا التواجد في باريس صيف1965, فهي كفلسطينية يمكنها أن تسافر متي تشاء, فالجنسية التي معها أردنية رغم أنها مولودة في قلب فلسطين. وكنت قادرا علي السفر إلي باريس بفضل جنون أملكه وحدي, فقد أقنعت رئيس مجلس إدارة روز اليوسف أحمد فؤاد وكان رئيسا لبنك مصر في نفس الوقت بأن يمنحني تذكرة سفر إلي باريس مع بدل سفر محدود مكافأة علي كتابتي لمذكرات الرسام سيف وانلي. ووافق الرجل.
..............................
أتذكر شمس ذلك الصباح الصيفي غزير المطر في مطار أورلي. وكانت رحاب واقفة لإستقبالي فقد جاء ت إلي باريس قبلي.
وصرنا لأيام نزدحم بالفرح, ودعوتها معي إلي لقاء المؤرخ والفيلسوف مكسيم رودنسون اليساري الذي تنبأ أمامنا بانهيار الإتحاد السوفيتي, ولكنه حذرنا من أن هناك عدوانا سيهب كعاصفة علي عالمنا العربي ما لم ننتبه; فإمبراطورية الشر في عالمنا هي الولايات المتحدة وعلينا أن نبحث كيف نواجهها.
وخرجنا من لقائه ونحن خائفان. لأن الخريطة التي ننتمي إليها موضوعة علي نيران مؤامرات لا يمكننا الإمساك بها.
ولأن التوهج العاطفي يبحث عن قوقعة تنفيذ الأحلام المؤجلة, لذلك قررنا أن نشهد اثنين من أصدقائنا علي زواجنا, ولنرحل من باريس إلي برشلونة لننسي كل شيء وأي شيء. واحتضننا فندق صغير في شاطئ اسمه كوستابرافا أي شاطئ الشجاع وفي قرية تسمي توسالامار أي زهرة البحر.
ومضت أيام من عناق وافتراق وذوبان واختناق, ثم تلاق, فصرنا إمتزاجا تتلاشي فيه الكلمات والمعاني; ولأننا لم نملك طاقة تصديق لما نعيشه من وهج, لذلك قامت بيننا معارك تافهة حول أسماء أطفالنا الذين لم ننجبهم. ولم نفكر للحظة في أشواك الذل القادم الذي توقعه ماكسيم ردونسون, خصوصا وأننا لم نكن نستطيع مقاومته.
ادعيت لها أني أعرف كيف أقود سفينة العشق في بحرها.
وادعت لي أنها قادرة علي أن تصنع بيت الكاتب القادر علي إنجاز كل ما يحلم من أعمال أدبية. وعندما نتحسس كلانا وعود الآخر في أذنيه; اكتشفنا أن كلا منا عاجز عن تلك الوعود تماما كعجز قادة وعدونا بأن يقودوا بلادنا كي تعود فلسطين. تشاجرنا كثيرا ولأسباب تافهة المظهر, عميقة الجوهر. تشاجرت معها علي سبيل المثال لأنها تشتري ملابسها من محلات باريس وعليها أن تشتري الصناعة المحلية, فكانت تضحك لتعايرني بأني مجنون بتدخين السجائر المصرية التي لا يوجد مثيل لها في باريس أو برشلونة; وأنني يجب أن أكف عن التدخين.
وانتهت أيام باريس وبرشلونة لنعود, كل منا إلي بلده, فأنا وهي لسنا من ذلك الصنف الأوروبي من الناس حيث يدعي الفرد لنفسه أنه دولة مصونة ذات سيادة فيرحل إلي أحضان من يحب مهما بعدت المسافات. ولكن هي وأنا مجرد بشر من جنس العرب, حيث الإنسان هو كائن إلا قليلا, لا تكتمل رجولة الرجل منا إلا بعلاقات متميزة التواصل بين الأم والابن أو الابن والأب, والأخ والأخت. وحيث لا تكتمل أنوثة المرأة منا إلا بعلاقات متميزة الوشائج بين الجد والجدة وعلاقات الأقارب بعضهم ببعض. فهناك سلاسل غير مرئية تشدنا جميعا بعضنا البعض لا يفر الواحد منا من قبضتها أبدا مهما ادعي لنفسه عكس ذلك.
وهكذا كانت رحاب مشدودة إلي نابلس لتتذكر الموقع الأصلي لعائلتها أي الناصرة وكفر حنه
..............................
ومن عجائب القدر أني لحظة سماعي خبر حرب يونيو1967 كنت في قرية بني مر, حيث ولد جمال عبد الناصر وهو الرجل الذي قاد أحلامنا أنا ورحاب. وعندما ركبت القطار عائدا إلي القاهرة, تعرفت علي الهزيمة من راديو لندن. ولم أصدق. كنت خائفا علي رحاب الموجودة بنابلس. هل دهمت بيتها قوات إسرائيل ؟ كنت أسكن وقتها في المنزل رقم3 بشارع ابن منظور الواقع خلف بيت جمال عبد الناصر. وتابعت بيانات الكذب من إذاعتنا وبيانات الحقائق التي رفضتها من إذاعات الخارج. لكن صداقتي من بعض من القادة أكدوا خبر الهزيمة. وهل أنسي ملامح محمد زغلول كامل أصغر الضباط الأحرار وهو من يعمل بمكتب الرئيس عبد الناصر ؟ هل أنسي ملامحه وهو يزورني ليؤكد خبر الهزيمة ويودعني للسفر إلي الإسماعيلية كي يهيئ مواقع للجنود الذين صدر لهم أمر انسحاب مروع ؟ وهل أنسي لحظة خطاب التنحي وخروجي إلي شارع الخليفة المأمون لأري بداية تجمهر البشر رفضا للتنحي ؟ هل أنسي السيدة التي نزلت بملابس البيت صارخة لا; ثم أفاجأ بها وهي تعلن فقدانها لكيس نقودها والذي يوجد به مفتاح البيت وكيف علا صوت كهل كان خلفها وهو يمسك بكيس نقود هل هذا هو كيس نقودك ؟ فتجيب السيدة: نعم ثم يتزاحم كلاهما مع جموع لا أعرف كيف أخرجتهم أرض المكان رفضا للتنحي. ولا أعرف من أين ظهر د. محجوب عمر الطبيب المصري الذي كان قد خرج من المعتقل قبل شهور, وهو يقف بجانبي ليسألني عن مكان قريب يمكن تحويله إلي مستشفي ميداني لأن مثل تلك الجموع قد يصاب أكثر من واحد منهم بأزمات, فأرشده إلي مقر معهد الدرسات الإشتراكية الواقع أمام الميريلاند, فيسرع إليه ويطلب متطوعين, فيجد من يساعده في هذا العمل. وبعد أن مرت الساعات بدأت أعي أني ذلك الكاذب الكبير في واقع حياة رحاب, فأنا لم أصحب الجنود لتحرير القدس. بل لم أعد مع الجنود عندما ساروا أياما تحت نير الطائرات. وهي أيضا تحولت إلي ضباب ذكريات لأنها سافرت ولم تأت إلي القاهرة بعد ذلك. ولم تغب عن ذاكرتي حين كنت أسمع من العميد عدلي شريف رجل المخابرات الحربية في ذلك الوقت وهو يروي لي قصص عبور المقاتلين المصريين إلي سيناء.
وعندما جاء انتصار أكتوبر انتظرتها كما وعدتني, لكنها لم تأت. صرت أراها فقط حين ينقل التليفزيون مشهد طوبة فلسطينية ترجم الإسرائيليين, فأي طوبة هناك لها معني مختلف عندي عن كل المعاني التي يمكن أن تتردد في الصحف والإذاعات. وأيضا يصير الرصاص المطاط الذي يطلق من بنادق الإسرائيليين الأشاوس له معني مختلف في ذهني عن معاني الشفقة والرثاء التي تمتلئ بها عيون مشاهد التليفزيون وهو يري ما يحدث في المسجد الأقصي.
ولم يكن أمامي إلا القلق; وأنا أتابع هذا الأسبوع حكايات السكين الفلسطيني الخارج من رحم اليأس ليلوح لإسرائيل بأن من يسكنون القدس بشر, وأن المسجد الأقصي سيجد من يدافع عنه من بسطاء الناس.
..............................
وحتي أقاوم إحساسي بالعجز قررت السفر إلي الإسكندرية, فما دمت غير قادر علي معرفة موقع رحاب في عالمنا, فلماذا لا أزور الموقع الذي تعاهدنا فيه أن يكون كل منا للأخر إلي آخر مدي, وهو كازينو الشاطبي الموجود في نهاية الشارع الفاصل بين مقابر الأجانب وحدائق الشلالات.
رأيت خيالها في بطن الموج المتلاطم ولأتذكر كلماتنا عن الحلم بحياة تنمية عربية تتكامل فيها الخريطة التي صارت ممزقة, خريطة تختلف عن هذا الرخاء محدود الأفق في بعض البلاد العربية والجوع المزور في بلاد عربية أخري. وإن معظم الذين عاشوا العقود والسنوات العربية الأخيرة وجدوا أنفسهم كالبالونات المنفوخة علي آخرها بهواء الأمنيات وصارت كل بالونة تخشي الاقتراب من أختها,حتي لا تنفجر. ولم يغب عن الذاكرة أن أول بالونة عربية إنفجرت بحرب أهلية هي لبنان. ثم غرقنا في عسل الكسل لأعوام لتنفجر بعد عقود بالونة العراق, ثم بالونة سوريا. وتلونت الأيام بهواء ملوث بالعجز وصار الإنسان يقرأ الجريدة التي تضم أخبار بشر يأكل بعضهم من لحم بعض, و كل منهم يري الآخر عفريتا فاسد الأخلاق. كل منا احتفظ لنفسه بلقب إنسان ونظر إلي الآخرين علي أنهم دمي وكانت النتيجة النهائية أن كلا منا صار دمية في عيون أخيه. وتحركنا علي مسرح الأيام. تسوقنا كرابيج أرباح التجارة بكل شئ. كرباج تجارة بناء الشقق الغالية التي لا تجد سكانا لها في كل الأرض العربية. وكرباج تجارة السيارات الفارهة التي لا تجد من يفهم في صيانتها علي كل الأرض العربية. وكرباج استغلال أرقي مناهج الخلق وهو الدين في صراعات لم يأمر بها أي دين, وتضارب رءوس الأموال العربية في بورصات لندن ونيويورك; فلا تزرع قمحا في السودان ولا تبني مصانع في مصر. ولا يعرف أحد كيف يكون المال عربيا, ثم يستفيد منه العديد ممن ليسوا عربا; لكننا نقضي كثيرا من الوقت أمام شاشات التليفزيون بإعلانات تتلاعب فيها حواجب الجميلات بالدعوة إلي التهام مالا يؤكل.
وعندما نطلب لأنفسنا تنظيم كل حياتنا نجد أبواق الاتهامات تتوالي ألا تؤيد فلانا وعلانا. وصرنا كقبائل بدائية لا تناقش وكلنا يزعق ونندفع. وبينما يتم تعبئة عشرات المليارات من الثروة العربية في صناديق الخزانات الحديدية للبنوك الأجنبية.
ولأن الخاص كما قلت من قبل يرتبط بالعام, فمازلت أقرأ بعيون الأحلام كلمات غير مكتوبة, سبق وهمس بها د. محجوب عمر الطبيب المصري الذي سألني ليلة تنحي عبد الناصر عن مكان يجعله مستشفي مؤقتا, هذا الطبيب هو من وهب عمره لفلسطين, وكان يملك يقينا بأننا سننتصر, لكنه رحل عن العالم قبل أن يري ذلك الذي تنبأ به; وكان كثيرا ما يضرب المثل برعب إريك شارون الذي قيل أنه بطل خارق, وكيف أن أحد الضباط المصريين التقي شارون وذكره بجرح جبهته من دانة مدفعية مصرية أثناء الثغرة, فمضي شارون يصرخ طالبا ترحيله إلي إسرائيل; شارون الذي توقف مخه بالجلطات بعد قتله لياسر عرفات, وحدث مع شارون أمر عجيب, فقد رفضت الأرض أن تقبله ميتا ورفضت السماء أن تعيد له الوعي, فقال الحاخامات أن السماء رفضت استقبال روحه كما رفضت الأرض أن يوجد في ثراها, فظل لشهور مقيدا علي سرير إنعاش في مزرعته و لم يفق من غيبوبته إلي أن تم دفنه
..............................
كان محجوب عمر يحدثني عن ضعف إسرائيل في ليل الثامن عشر من يناير1977, وأنا أحاول توصيله من الدقي إلي مدخل شبرا حيث منزل د. قدري حفني الذي نال الدكتوراه في دراسة جذور إسرائيل. قال محجوب عمر إسرائيل تعيش الآن ضعف القوة. فالقوي له ضعف بالغ الاختفاء. وأثناء حديثه هذا عاد إلي الخيال ما إختلطت فيه عاطفتي, أي بما مر بي مع رحاب. فرحاب شأن شديد الخصوصية, وضعف إسرائيل شأن شديد العمومية. ورغم أني كنت محبوسا مع محجوب عمر في سيارتي محاولا إيجاد وسيلة للوصول إلي مدخل شبرا, إلا أن خيالي أعاد لي صوت أمواج البحر لتطل منها ملامح رحاب الضاحكة حين لاحظت هي اختلاف لوني فردتي الجورب.
..............................
وحين أطلت ملامحها هذا الأسبوع في خيالي أطل سؤالي عن شخصية أول من أمسك سكين الغضب المقدسي القائم حاليا. ولم يأتني إجابة منها. فقط نظرت إلي طبق وضعه أمامي جرسون الكازينو وكان به بضع حبات من فستق. لا أدري لماذا أخفيت عن نفسي زيارة قامت بها رحاب إلي القاهرة لألتقيها في فندق شبرد, ولم يكن أي منا غريب عن الآخر. وأصرت هي علي أن نلتقي في الصباح لنأخذ تاكسي إلي بيت ميلاد الحب, كازينو الشاطبي بالإسكندرية. وسار التاكسي السياحي ليصل إلي الشارع الفاصل بين مقابر الأجانب وبين حدائق الشلالات. أطل يومها حلمنا المكسور بمستقبل لا يبيع الوهم.
خرجت من الكازينو لأقف حيث كنت أقف معها في نفس المكان.
وأخذت أتحدث مع خيالات قلعة قايتباي البعيدة والتي لا أري إنعكاسها في بطن الموج. أقول لرحاب:هل كف كل منا عن السفر تحت جلد الآخر ليفتش عن أخطائه.
قالت: كل منا يعيش علي أرض منطقة من الكون تحول الهواء الذي نتنفسه إلي زجاج مكسور. وكل منا يخاف من حوله وكل منا صار عودا من القصب الواقف في الهواء بلا جذور في الأرض; لأن سكين القوي العالمية تحاول قطع علاقتنا بالأرض ولابد لنا من أن نقاوم ذلك. ولولا يقظتكم في مصر لغاب عالمنا العربي في احتلال عثماني بتكلفة مدفوعة من المال القطري.
أقول: دعك من السياسة ودعيني أسألك; أما زال إحساسك يلعب معي لعبة شد الحبل.
قالت: عندما نترك السياسة سنري كلا منا وهو يتحول كل إلي قالب من الزبد يغلي علي نار الوهم
..............................
ولم أجد في أفكاري ما أرد به علي كلماتها, فقط أخذت أرقب موج البحر هامسا العام يختلط بالخاص, فلا نعرف فكاكا أو هربا من تذكارات حبيبة بعضها إزدحم بالسعادة وبعضها إنسحق تحت وطأة الدموع. ومازال قارب العاشق يتذكر أيام أن كان له ميناء. ومازال القلب يبحث عن مينائه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.