فى السنوات الأخيرة، لم يعد مهرجان الإسكندرية السينمائى لدول البحر المتوسط مجرد منصة لعرض الأفلام والاحتفاء بالنجوم، بل تحوّل إلى مؤسسة نقدية ذات مشروع واضح لتوثيق وتحليل تاريخ السينما المصرية، فمنذ أن أطلق فى دورته 38 استفتاء على أفضل 100 فيلم كوميدي، ثم واصل فى الدورة 39 بمشروع أفضل 100 فيلم غنائي، وتلاه فى الدورة الأربعين أفضل 100 فيلم رومانسي، بدا أن المهرجان يضع خطة منهجية لإعادة كتابة تاريخ السينما المصرية عبر قوائم موضوعية. وفى دورته القادمة، كشف المهرجان برئاسة الناقد الأمير أباظة عن نتيجة أحدث استفتاءاته: «أفضل 100 فيلم سياسى فى تاريخ السينما المصرية»، بإشراف الناقدة ميرفت عمر، هذا الاستفتاء فتح من جديد النقاش حول العلاقة المُعقدة بين الفن السابع والسياسة. تصدّر فيلم «الكرنك» للمخرج على بدرخان قائمة الأفلام السياسية، متقدماً على «البريء» لعاطف الطيب، و«شيء من الخوف» لحسين كمال، ولم يكن اختيار هذه الأفلام الثلاثة فى المقدمة محض صدفة، فهى تمثل ثلاثة مفاتيح أساسية لفهم علاقة السينما بالسياسة: «الكرنك» بوصفه شهادة بصرية على ما حدث فى حقبة السبعينيات، و«البريء» الذى قدّم مأساة المجند البسيط الذى يتحول من مواطن عادى إلى أداة قمع ، و»شيء من الخوف» الذى استخدم الرمزية ليجعل من شخصية «عتريس» نموذجاً للطاغية المتجذر فى المخيلة الشعبية. أهمية هذه الاستفتاءات أنها لا تقتصر على تكريم الأعمال القديمة أو إعادة عرضها، بل تمثل جهداً نقدياً يهدف إلى تأريخ التراث السينمائى وتقديمه فى صيغة مرجعية للباحثين والطلاب والأجيال الجديدة، إنها بمثابة أرشيف حيّ يذكّر الجمهور بأفلام قد تكون غابت طويلاً عن الشاشات، ويحفز على إعادة ترميمها وعرضها فى مهرجاناتٍ مقبلة، كما تفتح هذه المبادرات باب النقاش حول تصنيف الأفلام وجدلية السياسة والفن فى السينما المصرية. ومن خلال هذه المبادرات، يبرهن مهرجان الإسكندرية على أن دوره يتجاوز كونه موسماً سنوياً للعرض والاحتفاء، ليصبح منصة بحثية ونقدية تعيد النظر فى تاريخ السينما وتضعه فى سياق ثقافى وفكرى أوسع، والرسالة التى يبعثها استفتاء «أفضل 100 فيلم سياسي» تحديداً هى أن السينما المصرية ليست مجرد وسيلة للترفيه أو الاستهلاك الفني، بل هى سجلّ للمقاومة ومرآة صادقة لتحولات المجتمع وتاريخه السياسي. مع ذلك، يظل السؤال الأهم: هل تكتفى هذه الاستفتاءات بمهمة التأريخ وإعادة التذكير بما أنجزته السينما المصرية فى ماضيها السياسي، أم أنها تستطيع أن تكون رافعة لتحفيز سينما سياسية جديدة تواكب تحولات الواقع الراهن؟