جمعتني مساء أمس -الثلاثاء- جلسة ودية مع الفنان الكبير حسين فهمي الذي تربطني به علاقة قوية تمتد لما يقرب من ثلاثين عاما، وبحضور مجموعة من الزملاء الصحفيين من مختلف الصحف المصرية تم خلالها الحديث عن مهرجان القاهرة السينمائي بين ثقل التاريخ وإكراهات الحاضر. ولم تكن هذه الجلسة التي إمتدت علي مدار ساعتين، مجرد مناسبة للكشف عن بعض ملامح الدورة السادسة والأربعين للمهرجان، بقدر ما كانت نافذة لإعادة التفكير في فلسفة إدارة المهرجان وحدود موقعه ضمن المشهد السينمائي العربي والعالمي، فالرسائل التي بعث بها "فهمي"، سواء بوعي أو بغير قصد، تتجاوز الطابع الإخباري المباشر، لتضعنا أمام أسئلة جوهرية حول معنى "المهرجان الوطني" في زمن تتزايد فيه المهرجانات الخاصة وتتعاظم قوتها الإعلامية والمالية. فمثلا إعلان حسين فهمي بأنه رفض عرض رعاية بمليون دولار من إحدى الشركات لا يمكن قراءته باعتباره موقفًا ماليًا فحسب، بل يتعين فهمه في سياق أوسع، باعتباره إصرارًا على تثبيت هوية المهرجان بوصفه مشروعًا ثقافيًا للدولة، لا منصة خاضعة لإملاءات السوق أو الرعاة، هذه الرؤية، وإن بدت مثالية، تمنح المهرجان عمقًا رمزيًا يعزّز مكانته في الوجدان الثقافي، لكنها في المقابل تضعه أمام تحديات متكررة تتعلق بمرونته في إدارة موارده وقدرته على المنافسة. إقرأ ايضا: «القاهرة السينمائي»: الدورة 46 تحمل مفاجآت.. ونحافظ على روح المهرجان الكلاسيكية الإشادة الصريحة بدور وزارة الثقافة ودعم الوزير د.أحمد فؤاد هنو تكشف عن إدراك واعٍ من حسين فهمي بأن استقرار المهرجان مرهون بالدعم المؤسسي، فمهرجان القاهرة، بخلاف مهرجانات الجونة أو البحر الأحمر، يظل أكثر التصاقًا بالبنية الرسمية، وهو ما يمنحه "شرعية الدولة"، لكنه في الوقت نفسه يجعله أكثر عرضة للتجاذبات البيروقراطية، وهنا تكمن معضلة مزدوجة: كيف يحافظ المهرجان على هويته الرسمية دون أن يفقد ديناميكيته الفنية؟. وتأتي إثارته لقضية تسريب أسماء المكرمين "خالد النبوي والمخرج محمد عبد العزيز" لتعكس وعيًا بخطورة الانفلات الإعلامي على صورة المهرجان، ففي الوقت الذي تلجأ فيه مهرجانات أخرى إلى استثمار التسريبات كأداة لجذب الانتباه، يصرّ مهرجان القاهرة على الحفاظ على منطق الإعلان الرسمي الذي يعكس هيبة المؤسسة ووزنها التاريخي، إن هذا التمسك بالانضباط يضع المهرجان في مواجهة مع متطلبات عصر يتغذى على الإثارة والسبق، لكنه في الوقت ذاته يرسّخ صورة أكثر اتزانًا ورصانة. يعبّر موقف حسين فهمي، الرافض للاستعانة بالمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي كأذرع إعلامية للمهرجان، عن فلسفة واضحة تقوم على التمسك بالهوية الكلاسيكية للمهرجان، إلا أن هذا الموقف، على ما يحمله من وجاهة من حيث الحفاظ على الرصانة والجدية، يثير في الوقت ذاته تساؤلات عميقة حول قدرة المهرجان على التكيف مع التحولات الإعلامية المتسارعة. وفي مقارنته بمهرجان الجونة تمثل مؤشرًا بالغ الأهمية فبينما يعترف حسين فهمي بجدية التجربة هناك، يصر على أن مهرجان القاهرة يمتلك تفوقًا تاريخيًا وقيميًا يستند إلى كلاسيكيته ورصانته. هذا التمسك بالبنية الكلاسيكية ، يعكس رغبة في صون هوية المهرجان، لكنه يطرح في الآن ذاته تساؤلًا مشروعًا: إلى أي مدى يمكن لهذا النموذج الكلاسيكي أن يظل قادرًا على اجتذاب أجيال جديدة من الجمهور في عصر يبحث فيه المتلقي عن السهولة والبريق؟ إشارته إلى أزمة شباك التذاكر المتكررة تكشف عن ثغرة تنظيمية مزمنة لم تفلح إدارات المهرجان المتعاقبة في تجاوزها، هذا البعد التنظيمي لا ينفصل عن سؤال أوسع: هل ينجح المهرجان في أن يكون مهرجان دولة ونخبة في آن واحد، دون أن ينفصل عن جمهوره الأوسع؟ يمكن القول إن حسين فهمي قدّم خلال هذه الجلسة ملامح رؤية تسعى إلى تثبيت هوية مهرجان القاهرة كأحد الأعمدة الثقافية الوطنية في المنطقة، رؤية تتسم بالوعي الرمزي والالتزام بالقيمة، لكنها في الوقت نفسه تكشف عن معضلات متجددة تتعلق بالتنظيم، وبالتوازن بين الرسمية والجماهيرية، وبين الكلاسيكية ومتطلبات التجديد. غير أن ما يظل مقلقًا هو أن هذه الرؤية، على أهميتها، قد تبقى خطابًا مثاليًا أكثر منه برنامجًا عمليًا،فرفض الرعاة مهما بدا مبدئيًا، لا يعفي المهرجان من مواجهة واقعه المالي الصعب، والتمسك بالكلاسيكية، رغم وجاهته، قد يرسّخ صورة مهرجان مغلق على نخبة ضيقة لا يتواصل مع الأجيال الجديدة. إن التحدي الأكبر أمام مهرجان القاهرة اليوم ليس فقط أن يثبت أنه "مهرجان الدولة"، بل أن يبرهن على أنه مهرجان المستقبل أيضًا، فالمكانة التاريخية لا تكفي، والرمزية وحدها لا تضمن الاستمرار،إن لم يترجم المهرجان خطاب القيمة إلى آليات تنظيمية مرنة، وبرمجة جاذبة، وانفتاح حقيقي على الجمهور، بعبارة أخرى، ما طرحه حسين فهمي في جلسته يمثل خطوة مهمة في الدفاع عن هوية مهرجان القاهرة.