لم تكن شوارع التجمع الخامس في القاهرة الجديدة، تعرف أن وراء إحدى لافتاتها البيضاء قصة تُعيد للأذهان مشاهد من مسلسل «وش وضهر». عيادة تبدو أنيقة من الخارج، لافتة لامعة، طبيب يجلس خلف مكتبه بثقة مرتديًا البالطو الأبيض، ومرضى يدخلون ويخرجون حاملين أوراق العلاج مطمئنين أن صحتهم بين أيدٍ أمينة، كل شئ يوحي بالشرعية ولكن الحقيقة كانت على النقيض تمامًا: الطبيب لم يكن سوى مزيف، ومعه حكاية أقرب إلى الدراما. ◄ البداية.. من مساعد إلى دكتور المتهم، شاب في منتصف الثلاثينات، لم يُخفِ تاريخه حين سُئل أمام جهات التحقيق. جلس ثابتًا وقال بلهجة واثقة: «اشتغلت مساعد دكاترة في عيادات كتير لمدة 8 سنين.. اتعلمت منهم كل حاجة. حسيت إن الطب هو المجال الوحيد اللي بفهم فيه، فقررت أفتح عيادة، والناس ارتاحت لعلاجي وماحدش اشتكى». خريج معهد فني صحي، عمل طويلًا كمساعد أطباء، تعلّم الكثير من الممارسة اليومية، حتى شعر أنه قادر على أن يقف وحده. بالنسبة له، لم تكن الفكرة مجرد طموح، بل "فرصة" لأن يعيش دور لم يُكتب له. ◄ المسرحية المتقنة لم يكن هاويًا؛ العيادة مؤثثة بأجهزة وأدوات طبية، دفاتر وسجلات بأسماء مرضى، ملابس أطباء مُعلّقة بعناية، وحتى ماكينات دفع إلكتروني ليبدو كل شيء رسميًا وطبيعيًا. المرضى كانوا يدخلون بثقة، يدفعون الرسوم عبر الفيزا كأنهم أمام مؤسسة طبية معتمدة. على مدار شهور، لعب الرجل دوره بإتقان.. استمع للآلام، كتب وصفات علاجية، ووزع كلمات طمأنة. والأغرب أن المرضى – كما قال هو بنفسه – ارتاحوا لعلاجه، ولم يتقدم أحد منهم بشكوى ضده. ◄ لحظة السقوط لكن تحريات الإدارة العامة لمكافحة جرائم الأموال العامة كشفت الوجه الآخر من القصة. فالمتهم ليس طبيبًا، بل شاب "عاطل" وله معلومات جنائية سابقة. ومع اكتمال الأدلة، تحركت قوات الأمن. داهمت الشرطة العيادة، لتنهار المشاهد الوهمية أمام عيون المرضى. في لحظات، انكشف أن الطبيب لم يكن سوى ممثل بارع في دور زائف. أدوات وأجهزة ودفاتر وأجهزة كمبيوتر وهواتف محمولة كانت شاهدة على نشاطه الإجرامي. ◄ حين تلحق الدراما بالواقع القصة لم تمر مرور الكرام؛ إذ بدت نسخة واقعية من مسلسل وش وضهر الذي جسّد فيه الفنان إياد نصار شخصية "جمال"، الرجل الذي قرر فجأة أن يصبح طبيبًا ويبدأ حياة جديدة بهوية مزيفة، مستغلًا جهل الناس وثقتهم في المظاهر. في المسلسل، انهارت الخدعة أمام ضغوط الحياة والأحداث. وفي الواقع، أنهتها يد القانون. لكن الخيط الرابط واحد: الثقة المفرطة في المظهر، وسذاجة الناس التي تجعلهم يسلّمون حياتهم لمن لا يستحق. ◄ ما بين الدرس والتحذير ربما يكون الطبيب المزيف مجرد حالة فردية، لكنها تُلقي بظلال ثقيلة على سؤال كبير: كيف نثق؟ هل يكفي أن نرى "بالطو أبيض" ولافتة أنيقة لنطمئن أن أرواحنا في أيدٍ أمينة؟ القصة ليست فقط عن متهم سيمثل أمام المحكمة، بل عن مجتمع يُدرك يومًا بعد يوم أن الخيال الذي يمر أمامه في الدراما قد يكون نسخة مُكررة من الواقع. ومثلما كشف وش وضهر زيف "جمال" على الشاشة، كشفت الشرطة زيف الطبيب في التجمع الخامس، ليبقى الدرس حاضرًا: أقنعة الخداع قد تسقط في أي لحظة، لكن الخطر يكمن في الوقت الذي تظل فيه ثابتة على الوجوه. ◄ الدرس الأخطر ربما يكون سقوطه مجرد واقعة فردية، لكنها تطرح سؤالًا واسعًا: هل يكفي أن نرى «بالطو أبيض» ولافتة أنيقة لنمنح ثقتنا المطلقة؟ القضية ليست عن متهم فقط، بل عن مجتمع كامل يُدرك أن الدراما ليست دائمًا خيالًا.. أحيانًا تكون مرآة لواقع أقرب إلينا مما نتصور