دعونا نتفق منذ البداية على بعض الأسس، التى يمكن تفسير وتقديم رؤية لتتابع ما حدث منذ يوم الثلاثاء الماضى بالهجوم الإسرائيلى غير المسبوق على العاصمة القطريةالدوحة، وتحفظ البعض على قرارات القمة العربية الإسلامية، ومنها أن السياسة هى (فن الممكن، وليس السعى إلى المستحيل)، كما أن أى قرار يتم اتخاذه على المستوى السياسى، يخضع لحسابات ومعلومات ودراسات، تملكها القيادات، وبعضها قد تختلف مع التوجه الشعبى، أو مشاعر الجماهير، كما أن علينا أن نكون قد فهمنا منذ عقود، وهذه حقيقة مؤسفة ومؤلمة، أن إسرائيل تمثل استثناء فى السياسة الدولية، فهى فوق الشرعية والقانون الدولى، بدعم مطلق من الولاياتالمتحدة، سواء كان حاكمها من الجمهوريين أو الديمقراطيين، ويكفى مؤخرًا أنها مثلت (مظلة حماية)، (وحائط صد) من الإدانة الدولية فى مجلس الأمن منذ أيام، وفرضت على أعضائه ال 15، عدم ذكر المعتدى، رغم إدانة فعل الهجوم، لتمرير البيان الصحفى، وليس القرار، وكأن العدوان قامت به كائنات كونية مجهولة، أنا هنا لا أدافع وأبرر لأحد، ولكنها الحقيقة رغم مرارتها. ولعل الصدمة كانت الشعور العام الذى ساد عواصم العالم، مع اللحظات الأولى للعدوان على قطر، ولم يكن له أى مبرر، رغم أن تل أبيب استباحت خلال العدوان الأخير، عواصم أخرى منها صنعاءودمشق وبيروت، خاصة أن لها دورًا مهمًا فى لعب دور الوسيط مع مصر، فمنذ بداية العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة فى أكتوبر 2023، نجحتا معًا فى التوصل إلى اتفاق حول هدنتين فى نوفمبر 2023 والثانية فى يناير 2024، وإذا كان الهدف منها قتل قادة الوفد المفاوض لحركة حماس فالتاريخ القريب، يقول إن فتح حوار قطرى مع الحركة، بدأ بطلب مباشر من واشنطن، بعد حصولها على الأغلبية فى انتخابات المجلس التشريعى الفلسطينى فى يناير 2006، والتى شهد بنزاهتها العالم كله، ومنهم الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، الذى تولى مراقبتها، وهو الأمر الذى تطور فى بداية عام 2012، حيث تم التنسيق بين الطرفين، على نقل مقر حماس من دمشق إلى الدوحة، تفاديًا للحرج الذى عاشته الحركة، بعد ثورة الشعب السورى على بشار الأسد فى مارس 2012. وأتوقف هنا عند تقييم إدارة قطر لواحدة من أخطر الأزمات التى واجهتها، فمنذ اللحظات الأولى للعدوان، نجحت فى تحويله من أمر يتعلق بطرفين، أو شأن خاص بها، إلى قضية أمة عربية وإسلامية، وتحركت على أكثر من صعيد. خليجيًا: حيث كان من الملاحظ حديث رئيس الوزراء القطرى ووزير الخارجية فى أول إطلالة له بعد العملية عن أنها تستهدف دول الخليج برمتها، حيث نجح العدوان فى توحيد الموقف الخليجى بصورة غير مسبوقة، وظهر هذا من خلال الحرص على عقد قمة خليجية على هامش القمة العربية والإسلامية، ودعوة القادة إلى اجتماع عاجل لمجلس الدفاع المشترك، يسبقه اجتماع للجنة العسكرية لتقييم الوضع الدفاعى، ومصادر التهديد، فى ضوء العدوان الإسرائيلى، وتفعيل آليات الدفاع المشترك، وقدرات الردع الخليجية، وفى هذا الإطار يمكن فهم الزيارة الاستثنائية التى قام بها الشيخ محمد بن زايد للعاصمة القطرية، وحديث ولى العهد السعودى محمد بن سليمان الفورى أمام مجلس الشورى، بأن بلاده تدعم قطر فى كل الإجراءات، وقال: (سنكون مع قطر فى كل ما تتخذه من إجراءات بدون حدود). عربيًا وإسلاميًا: حيث لم يمر أقل من أسبوع، حتى نجحت المشاورات التى قادتها الدوحة فى التوافق على قمة مشتركة، ومهما كان هناك تباين فى تقييم نتائجها، فإنها مثلت رسالة دعم غير مسبوقة لقطر، ولعل البند الخامس عشر من البيان الختامى يمثل توجهًا جديدًا، بعد أن نص على دعم الإجراءات الخاصة، بعدم إفلات إسرائيل من العقاب، وفرض العقوبات عليها، وتعليق تزويدها بالأسلحة، ومراجعة العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية معها، ومباشرة الإجراءات القانونية ضدها. إسرائيليًا: استخدمت قطر مفردات واضحة وصريحة وخشنة، ضد المسئولين الإسرائيليين وفى مقدمتهم نتنياهو، والإشارة إليه شخصيًا، وهو أمر غير معتاد فى العلاقات على الأقل عربيًا، ومنها ما قاله الشيخ تميم بن حمد أمير قطر فى افتتاح أعمال القمة العربية والإسلامية، حيث أشار إلى أن نتنياهو (يحلم أن تصبح المنطقة العربية منطقة نفوذ إسرائيلية وهذا وهم خطير) كما دعا رئيس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن فى مقابلته مع قناة سى إن إن، إلى تقديمه للمحاكمة، مع تشكيل فريق قانونى لمباشرة اتخاذ الإجراءات القانونية، للرد على الهجوم الذى وصفه، بأنه (تصرف مارق وإرهاب دولة يمارسه نتنياهو). أمريكيًا: نجحت قطر فى الحصول على تعهد ترامب بعدم تكرار الهجوم، وشهدنا ماراثون الاتصالات بين الجانبين والزيارات بين كبار المسئولين فى الدوحةوواشنطن، للاتفاق على ملامح المرحلة القادمة، والتوصل إلى اتفاق دفاعى مشترك. وبعد، فبكل تجرد، فقد نجحت قطر فى سرعة تجاوز الأزمة، واستثمارها سياسيًا ودبلوماسيًا، وأظن أن تل أبيب ستفكر ألف مرة قبل أن تكرر تلك الحماقة مرة ثانية