ظلّ لسنواتٍ نجم مرحلة «الغُربة»، بوصفه مُوصّلا جيدا لمشاعر عابرة للحدود، بين عائلاتٍ تفكّكتْ أوصالها سعيا وراء الرزق. غالبا تسبّب ذلك فى تحويل ما فرضتْه الحاجة إلى هواية، بعد أن ورثت جينات الأطفال بهجة استقبال «البوسطجى»، وهكذا وُلدت هواية المراسلة، التى نجحت فى مداعبة خيالات مراهقتنا! تابعتُ بشغفٍ الفيلم الوثائقى «شكرا لساعى البريد»، للمخرج أحمد رشوان الذى كتب السيناريو أيضا، ودفعتْنى براعة العمل للالتحام مع تفاصيله، التى فجّرت بداخلى طاقة حنينٍ هائلة، وجعلتْنى جزءا من سياق الأحداث، وكان طبيعيا أن يختفى ساعى البريد منه، ويتم الاستعانة بمشهد درامى لتجسيده، لأن هذه الوظيفة بشكلها التقليدى انقرضت غالبا. تبقى «الأظرُف» ومحتوياتها البطل الأساسى، بما تحمله من ذكريات دفعت البعض للحرص على اقتنائها، وفتحتْ لها منفذا رائجا فى «سوق ديانا» وأخواتها، يقصدها هواة جمع الرسائل القديمة، والباحثون فى تحوّلات المجتمع المصري، التى تُوثّقها الخطابات. والغريب أن الفيلم كشف أن الطبيعة البشرية لا تتغير، بل تُجدد نفسها فقط باستخدام التقنيات الحديثة. أحد شخصيات الفيلم اعترف ضاحكا أنه انتحل شخصية فتاة، وظلّ يتلقى لمدة 17 عاما رسائل من شباب.. وقع بعضهم فى غرامه! وهو ما يجرى حاليا على وسائل التواصل الاجتماعى، حتى أصبحت هناك شكوى متداولة من فقدان الثقة، فالمشاعر تتنامى ثم يكتشف العاشق الإلكترونى فى النهاية أنه وقع ضحية شاب مُتنكّر! حكاياتٌ بنكهة الاعترافات جمعها الفيلم، يرجع بعضها لثلاثينيات القرن الماضى: شاعر صعيدى اقتنص إعجاب الكثير من الفتيات عن بُعد، ووثّقت السطور أحاسيس معجباته المُغلّفة بالحياء «رحمة الله عليه»! وخطابات لبشرٍ عاديين بصياغة راقية تشبه النصوص الأدبية، وأخرى لمشاهير مثل الأديب سعيد الكفراوى وعالم الآثار الدكتور أحمد قدرى. بخبرته السينمائية نجح المخرج فى تفادى ملل المواد التسجيلية، واستعان بمشاهد درامية مصنوعة، ومعادل بصرى يتنقل بالمتفرج بين القاهرة والإسكندرية ومناطق ريفية، مما حوّل جفاف الوثائقيات إلى مادة مفجّرة للشغف. وداعا ساعى البريد.. وشكرا لأحمد رشوان على عبثه بذكريات صباى!!