إنه يوم كل فلاح وكل صديق مثلى معجون بطين أرض الخير والنماء وعرق الصيف وبرد الشتاء، هم الخميرة التى منها كل ملايين المصريين مهما تنكر وتكبر بعضهم ومحا بعضهم من خانة نشأته أنه ابن قرية مصرية شمالية أو جنوبية، هم جنود المحروسة بلا تمييز ولا شارات ولا ألقاب، الذين لم يخلعوا طوال آلاف السنين أردية القتال ولا تركوا سلاحهم من أيديهم0 هل هناك سلاح أوفى من الفأس فى اليد العرقانة بالجهد، وما انتظموا فى مظاهرة تطالب بحق أو تتذمر من ظلم وكثيرًا ما تاجر بهم الأفندية لبساطتهم ببهرجة كاذبة يدفعون ثمنها من قوت أولادهم، والطامعون من التجار أكلوا ثمار عرقهم، وساموا الناس العذاب من سعار الأسعار ففازوا بالملايين والمليارات وتركوا للفلاح المخلص الفتات!. ورغم قلة الأعمال الدرامية التى اقتربت من عالم الريف، إلا أنها ابتعدت فى الغالب عنهم ببهرجة الوجوه الناعمة والألوان الصارخة والملامح المستريحة الهانئة التى تبعد كثيرًا بلكنتها المثيرة للضحك عن صدق وبساطة لكنتهم، لأنهم لم يجهدوا أنفسهم فى التفاصيل المهمة اللهم إلا ما فعله صناع فيلم «الزوجة الثانية» على حد ما قرأت من أن كاتب السيناريو سعد الدين وهبة ومخرج الفيلم رائد الواقعية صلاح أبو سيف قد أقاما معسكرًا ريفيًا لأبطال الفيلم فى قرية بشرق الدلتا ظلوا جميعًا فيه لعدة أسابيع عايشوا خلالها حياة القرية على طبيعتها وعرفوا كيف يتصرف الفلاحون وكيف ينطقون ليخرج الفيلم كما شاهدناه ويقبل الكثيرون على مشاهدته وكأنهم يرونه للمرة الأولى. وللحق فالأعمال الأدبية التى تناولت الريف زمان كانت أقدر فى الاقتراب من عالم الفلاح وأكثر قربًا من تفاصيله المعتمدة على اللغة وإثارة الخيال بعيدًا عن التجسيد التمثيلى الناطق والمصور بمناظر يتخيلها المخرج أو السيناريست. ومن يقرأ مثلًا رواية (الأرض) لعبد الرحمن الشرقاوى و(الزوجة الثانية) لأحمد رشدى صالح و(الحرام) ليوسف إدريس و(الوتد) لخيرى شلبى و(الناس فى كفر عسكر) لأحمد الشيخ، يمكنه بخياله ولغة المؤلف ووصفه وتشريحه لمشاهده وارتباط ذاته إن كان من أهل الريف أن يعيش عملًا فنيًا يتجسد بين خياله وبين عالم الرواية كما كتبها صاحبها. ولست بصدد المقارنة التى تفاوتت من رواية لأخرى ومن عمل درامى لآخر، فذلك مجاله أرحب، فقط أرصد من خلال تلك الأعمال الحنين إلى ذلك العالم البسيط رغم مشاكله، السلس رغم معاناته، المستشعر للسعادة والتذوق للمتعة رغم ندرتهما، العالم الذى تحول واقعه بما يساوى واقع المدينة الصاخب، فصار صخب القرية الزاعقة واضحًا فى أسلوب معيشتها وعلاقة أفرادها مع بعضهم البعض فى دوامات قلبت أعلاها فصار أسفلها وابتلعت داخلها بساطة الماضى وتفاصيله الفسيفسائية ولم تترك إلا مسميات يكذبها الواقع وتصدقها فقط الألسنة، وبرغم ما فى الأعمال الفنية من قلة اقتراب من واقع الريف فإنها تثير فى النفس الحنين لذلك العالم البسيط، وتثير اللوعة على ما صارت إليه الحال هناك وكم أشعر بالحنين لذلك الماضى مع أى عمل أدبى أو فنى يجسده بحلوه ومره وتقشفه وزهده وبساطته، حتى وهم يغنون له (محلاها عيشة الفلاح) وبرغم أنها كانت وقتها مثلًا على الشدة والكفاح وضنك الجيوب إلا أنها كانت مثلًا صادقًا على بحبحة النفوس وثراء القلوب. وكل عام وكل فلاح فى سعادة وسرور. *المقال إهداء من الكاتب.