تُمثل ذكرى مولد النبي فرصة عظيمة لتذكير الأمة الإسلامية بقيمه الرفيعة وأخلاقه السامية، والتحلى بما دعا إليه من فضائل تُحسِّن وجه الإسلام والمسلمين. ويجب أن ندرك أن يوم مولد نور الهدى ليس مجرد يومٍ لميلاد رسولٍ عظيمٍ جاء لينقذ الإنسانية من ظلمات الجاهلية وعبادة الأوثان، ويصحح اتجاه الزمن والتاريخ؛ بل هو ذكرى ميلاد أمةٍ كاملة صنعها هذا النبى الكريم، وربّاها على الحب ومكارم الأخلاق وأصول الفضائل والدعوة إلى الخير والحق، ومقاومة الشر والباطل. لقد قدَّم المسلمون بفضل هذه التعاليم النبوية فى مسيرتهم الحضارية الكثير مما أسعد الإنسانية، وظلَّلها بظلال وارفة من العدل والحرية والإخاء، وحماها مما ارتكست فيه حضارات أخري، كانت - في بعض انعكاساتها - وبالًا وشرًّا مستطيرًا على البشرية قديمًا وحديثًا. وفي هذه الذكرى العطرة، تُقدّم «آخر ساعة» لقرّائها ملفًا خاصًا عن مولد خير البرية ، نستعيد فيه الدروس والعِبر، ونفتح صفحات التاريخ والروح لملامسة أنوار الرسالة المحمدية. ◄ النور الذي أضاء درب الإنسانية.. الرحمة المُهداة ■ كتب: محمد نور لعلَّ من الصعب، إن لم يكن من رابع المستحيلات، تقديم شخصية استثنائية كشخصية النبى محمد ، فى التسامح والعفو والعطاء، أو الإلمام بعظمتها فى بضعة سطور، فضلًا عن الإحاطة بملامحها وقسماتها. يقول الشيخ حسام أمين، من علماء وزارة الأوقاف: إننا نقف اليوم مع ذكرى عظيمة فى تاريخ البشرية كلها، ألا وهى ذكرى مولد سيد الخلق محمد ، الذى لم يكن ميلاده حدثًا عاديًا، بل كان حدثًا غيَّر مجرى التاريخ، وأضاء للإنسانية درب الهداية والرحمة والسلام، ويقول الله تعالى فى وصف رسالته: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ «الأنبياء: 107»، فعلينا أن نتأمل أنه لم يقل ربنا «رحمة للمؤمنين» فقط، ولا «رحمة للعرب»، بل قال «رحمة للعالمين»، أى لكل إنسان، ولكل مخلوق، بل حتى الجماد والحيوان والطير نال من رحمته . ويضيف أمين، أن النبى قدم لنا أعظم نموذج للتسامح والرحمة، فهو القائل: «إِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» «رواه مسلم»، وكان رحيمًا حتى مع أعدائه. تابع: وعندما دخل مكة فاتحًا، بعد أن أُوذى وأُخرج وحورب، وقف أمام من طالما آذوه وقال: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّى فَاعِلٌ بِكُمْ؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لهم : «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاء» «رواه البيهقي». أى رحمة أعظم من هذه؟! وأى تسامح أوسع من هذا؟! ◄ إحياء الرحمة ويؤكد الشيخ حسام أمين، أنه يجب علينا أن نستعيد هذه المعاني: بأن نحيى فى قلوبنا الرحمة، وأن نتعامل مع الناس بالتسامح، وأن نكون كما قال : «ارْحَمُوا مَن فِى الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَن فِى السَّمَاءِ» «رواه الترمذي»، فلنحوّل ذكرى مولده الشريف من مجرد احتفال عاطفى إلى التزام عملى بمنهجه وسيرته وخلقه. ومن جانبه، يؤكد الدكتور أحمد الفشني، من علماء التصوف، أن البشرية لم تعرف شخصية فى التاريخ الإنسانى أعظم من هذا النبى ، لذلك نجد أن الصفات والفضائل والمكارم التى اختصت بها شخصيته المتفرّدة على مستوى الإنسانية والتاريخ وامتداد الكون لا حصر لها. أما صفاته الخُلُقية، فقد أُحصيت أصولها، واستقلّت بها أبواب وفصول، بل كتب مستقلة، مثل طول حلمه، وقوة احتماله، وصبره، وعفوه ورحمته، وشفَقته ورأفته ، وجوده وكرمه، وشجاعته ونجدته، وحيائه وإغضائه، وحسن عشرته، ووفائه بعهده ووعده، وتواضعه، وعدله وأمانته، ووقاره ومروءته ، ولم يقتصر هذا الشغف بتسجيل حياة النبى الكريم على قُدامى المؤرخين وكُتّاب المغازى والسير، بل امتد هذا الحب والولع إلى مؤرخى كل عصر ومصر. ◄ وثيقة تسامح ويضيف الفشنى أن وثيقة «اذهبوا فأنتم الطلقاء» تعد أعظم وثيقة للتسامح أطلقها رسول الله يوم فتح مكة، حينما انتصر على من طردوه وآذوه واتهموه باتهامات باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وضيقوا الخناق على أتباعه ومناصريه، وبرغم ذلك لم يفكر فى الانتقام أو الثأر منهم، أو حتى رد الإساءة بمثلها، ولفت إلى مواقف كثيرة تدل على التسامح والعفو فى حياة النبى ، منها ما حدث حين همَّ أعرابى بقتله وهو نائم تحت ظل شجرة، وقد علق سيفه عليها. فقد روى جابر رضى الله عنه قائلًا: «كنا مع رسول الله بذات الرقاع - إحدى غزوات الرسول -، فنزل تحت شجرة وعلق بها سيفه. فجاء رجل من المشركين، وسيف رسول الله معلّق بالشجرة فأخذه، فقال الأعرابي: تخافني؟ قال رسول الله : لا. فقال الأعرابي: فمن يمنعك مني؟ قال رسول الله : الله. فسقط السيف من يد الأعرابي، فأخذ رسول الله السيف وقال له: فمن يمنعك مني؟ فقال الأعرابي: كن خير آخذ. فقال : تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله؟ قال: لا، ولكنى أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى رسول الله سبيله. فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس»، وهذا إن دل فإنه يدل على عظيم تسامح الرسول. ◄ اقرأ أيضًا | نقيب السادة الأشراف يشارك في احتفال الأزهر الشريف بالمولد النبوي الشريف ◄ حكم الاحتفال بذكراه.. أعظم أيام الله الاحتفال بذكرى مولد النبى الشريف تذكير بمواقفه العظيمة، وثناء عليه، وإظهار للفرح فى نفوس المسلمين، حيث تجتمع الملايين على الذكر والإنشاد فى مدحه ، وتوزيع الطعام صدقة لله، وإعلانًا لمحبة سيدنا رسول الله . ◄ فرح ورحمة حول شرعية الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، يقول الدكتور عبدالشافى الشيخ إن الاحتفال بالنبى فرح بفضل الله ورحمته، والله تعالى أمرنا أن نفرح بفضله ورحمته، كما قال سبحانه: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾. والنبى فضل من الله ورحمة للعالمين، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، ولذلك نفرح بعطاء الله لنا. ويشير الدكتور عبد الشافى إلى أن مجالس الذكر احتفاء بالنبى ، وأول من احتفل به هو الله عز وجل، إذ قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾، وهذه صلاة لم يخص بها سوى النبي. أما الدكتور سيد مندور، أستاذ بجامعة القاهرة، فيبدأ حديثه بالتساؤل: ما الدليل على الاحتفال بمولد النبى ؟ ثم يوضح أن هناك أدلة كثيرة منها.. الدليل الأول: أنه تعبير عن الفرح والسرور بالنبي. الدليل الثاني: أن النبي كان يعظم يوم مولده، ويشكر الله تعالى فيه، وصام يوم الاثنين لذلك. ◄ نبي التسامح في مواجهة خطاب الكراهية.. مدرسة نبذ الإرهاب لم تكن السيرة النبوية قصصًا للتسلية، ولا مجرد أحداث للتاريخ، بل هى مدرسة عظيمة نتعلم منها كيف نبنى المجتمعات على الرحمة والتسامح، وننبذ كل صور العنف والتطرف. يقول الدكتور علاء مشعل أستاذ بجامعة الأزهر: «نحن نستلهِم السيرة النبوية في مواجهة خطاب الكراهية والعنف والتطرف، ونستلخص من حياة النبى كل العِبر؛ فقد عاش فى بيئة مليئة بالصراعات والعداوات، لكنه واجهها بالحكمة والرحمة.» وقد وصفه الله تعالى بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ «آل عمران:159». ◄ قيم رفيعة ويتساءل الدكتور مشعل: كيف قدم النبى صلى الله عليه وسلم قيم التسامح والرحمة كأساس للبشرية؟ مؤكدًا أن النبى ضرب أروع الأمثلة فى إرساء مبدأ التسامح؛ فقد ورد عن السيدة عائشة - رضى الله عنها - قولها: «والله ما انتقم رسول الله لنفسه فى شيء أُوتى إليه قط حتى تُنتهك حرمات الله، فينتقم لله عز وجل»، وكيف لا يكون كذلك، وهو الذى كان خُلقه القرآن؟ فقد امتثل لأوامر الله وانتهى بنواهيه؛ حتى قالت السيدة عائشة - رضى الله عنها - حين سُئلت عن خُلقه: «كان خلقه القرآن». وأضاف ومن الأوامر التي تلقاها من ربه قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِى حَمِيمٌ﴾، وقوله عز وجل: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾، وقد تجلت رحمته فى مواقفه مع المخالفين والمعاندين. ◄ فكر منحرف ويضيف: إن أخطر ما نواجهه اليوم هو خطاب الكراهية الذي يغذى العنف والتطرف، وهو فكر منحرف لا علاقة له بسيرة النبى . فالنبى ما دعا يومًا إلى قتل الأبرياء ولا إلى سفك الدماء، بل دعا إلى الرحمة والعدل والإحسان. ولذلك علينا أن نُعلّم أبناءنا السيرة النبوية حتى لا يختطفها أهل الغلو، ويُطالب مشعل بغرس قيم التسامح فى قلوب الشباب، مؤكدًا أن الإسلام دين سلام ورحمة، جاء ليحفظ الدماء لا ليهدرها، ويبنى الأوطان لا ليهدمها. أما الدكتور محمد العربى أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو المنظمة العالمية للأزهر الشريف فيؤكد أن الإسلام جاء بالحب والتسامح وحسن التعايش، وغرس فى النفوس قيمًا عظيمة توحد الأمة وتحقق أمنها وسلامها. ويشير إلى أن النبى ضرب أعظم الأمثلة فى التسامح والعفو، فلم يحمل فى قلبه أحقاد الجاهلية، وكان يقول يوم فتح مكة: «من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن». ◄ منهج فريد ويستشهد العربى بقول النبى حين رفض الدعاء على المشركين: «إن الله لم يبعثنى طعّانًا ولا لعّانًا، ولكن بعثنى رحمة وداعية. اللهم اهدِ قومى فإنهم لا يعلمون»، مُضيفًا: لقد كانت السيرة النبوية منهجًا فريدًا فى الرحمة والتسامح، أساسه القرآن الكريم، ورسالة خالدة لتعليم الإنسانية كيف تواجه الكراهية بالرحمة، والعنف بالحلم، والتطرف بالاعتدال. ◄ 1000 عام محبة.. من قاهرة المعز إلى كل الدنيا.. فرحة أصلها مصري ■ كتب: حسن حافظ من قلب مصر العامر بالمحبة خرج الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، ففى قاهرة المعز عُقد أول مجلس للاحتفال بمولد النبى الأكرم، ومنها انتشر إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي. فالبداية كانت فى القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وعلى مدار ألف سنة أعطى المصريون للاحتفال بالمولد الشريف طابعه المميز، وكان - ولا يزال - وسيلتهم المفضلة للتعبير عن حب رسول الله ، وتفننوا فى التعبير عن هذه المشاعر بأشكال احتفالية لا تتوقف عند حلاوة المولد، وإن كانت هى أشهى طقوسه. البداية تعود إلى ألف عام، بحسب الدكتور أيمن فؤاد سيد أستاذ التاريخ الإسلامى بجامعة الأزهر وصاحب كتاب الدولة الفاطمية فى مصر، إذ يقول إن الدولة الفاطمية هى أول من احتفلت بالمولد النبوى الشريف، بل إن لفظ «مولد» استخدم فى الإشارة إلى هذا الاحتفال بذكرى مولد رسول الله فى مصر الفاطمية، لأن الفاطميين ينتسبون إلى السيدة فاطمة الزهراء والإمام على بن أبى طالب، وهم يفتخرون بأنهم أحفاد النبي. لذا احتفلوا بشكل سنوى بستة موالد، هى مولد النبي، وفاطمة، وعلي، والحسن، والحسين، والإمام الإسماعيلى الحاضر. ومن هنا بدأت هذه الاحتفالات بشكل رسمى فى القاهرة الفاطمية، حيث كانت تأخذ الشكل الرسمى الذى يشرف عليه الخليفة الفاطمي، وتوزع فيها الحلوى التى كانت تُصنع فى أماكن مخصوصة لإعدادها، تُعرف باسم «دار الفطرة»، وهى المكان المخصص لصناعة الحلوى التى توزع فى صوانٍ من النحاس. وكان الخليفة الفاطمى يشارك فى هذه الاحتفالات بموكب ضخم يجوب القاهرة، وتوزع فيه الحلوى ذات الطابع الشعبى التى تُصنع على شكل تماثيل، ومنها بقيت أشكال عروسة المولد والفارس الراكب للحصان، ربما كمحاكاة للخليفة وهو يركب الحصان فى الموكب. ◄ العصر المملوكي وتواصل الاحتفال بالمولد النبوى فى العصر المملوكى (1248 - 1517م)، وإن أخذ طابعًا أكثر شعبية، بحسب محمد صبحى الباحث فى تاريخ مصر الإسلامية الذى أصبح مستقرًا فى وجدان المصريين، حتى انبرى عدد من الفقهاء فى الدفاع عن هذا الاحتفال. فالفقيه المجدد جلال الدين السيوطى ألّف كتابًا فى العصر المملوكى بعنوان «حسن المقصد فى عمل المولد»، جمع فيه آراء الفقهاء التى تذهب إلى أن الاحتفال بالمولد النبوى من البدع الحسنة التى يُثاب عليها المرء لما فيها من تعظيم قدر النبى ، ومواكبة الاحتفال بفعل الخير وصلة الأرحام وذكر الله. ويشير صبحى إلى أن الاحتفال بالمولد فى العصر المملوكى كان يستغرق شهرًا كاملًا، أى شهر ربيع الأول كله، إذ جرت العادة على أن يجرى الاحتفال الرئيسى الذى يشارك فيه السلطان المملوكى فى الجمعة الأولى من شهر ربيع الأول. وتطور الاحتفال حتى وصل إلى ذروته مع السلطان الأشرف قايتباي، الذى أمر بعمل خيمة كبيرة مدوّرة خُصصت لجلوسه فى احتفالات المولد النبوي، لذا عُرفت باسم «خيمة المولد». ◄ العصر العثماني تحرر الاحتفال بالمولد النبوي من الشكل الرسمى فى العصر العثمانى تمامًا، وأصبح يرتبط بالناس بصورة حاسمة. وهو ما يؤكد عليه محمد نور، الباحث فى التراث الشعبى بصعيد مصر، إذ يقول إن الاحتفال بالمولد الشريف أصبح ظاهرة شعبية دينية بامتياز، فأصبحت كل قرية تعبر عن الاحتفال بالمولد بشكل خاص، عبر صناعة أكلات مخصوصة توزع على المارة وعابرى السبيل. وظهر مشهد الموكب الشهير فى قرى الصعيد، والذى تُستخدم فيه الجِمال لعمل موكب يلف القرية كلها، وهو طقس مشهور فى قرى الصعيد يعيد محاكاة موكب الخليفة الفاطمى فى يوم المولد الشريف. كما تُعقد جلسات الذكر والإنشاد فى مختلف القري، إذ جرت العادة على الاحتفال بالمولد طوال شهر ربيع الأول. وأشار نور إلى أن أحد أهم طقوس الاحتفال بالمولد، والمستمرة منذ قرون عديدة، هو قراءة سيرة النبى من خلال نصوص شعرية تعرف باسم «المؤلفات المولدية»، وأشهرها التعطيرة الشريفة للشيخ أحمد المناوى الشاذلي. وهى أشعار تُلقى فى صورة ذكر وتتضمن أدعية ومدائح نبوية، وهو لون من التأليف الذى برع فيه المصريون. ومن أشهر من ألقى هذه القصائد طه الفشنى وسيد النقشبندى وغيرهما. ◄ عادة متجذرة في التاريخ| حلاوة زمان.. عروسة وحصان مع حلول ذكرى المولد النبوي الشريف، تفوح فى الأسواق رائحة السكر المحمَّص والمكسّرات، وتتلألأ واجهات المحال بألوان الزينة وعرائس المولد وأحصنة السكر، إنها الإشارة التى يعرفها الجميع: موسم «حلاوة المولد» قد بدأ، ذلك الطقس الشعبى الذى يجمع بين التراث والفرحة. «حلاوة المولد» عادة متجذرة فى التاريخ، فالمصادر تشير إلى أن الفاطميين كانوا من أوائل من أدخلوا عادة توزيع الحلوى فى احتفالات المولد، ثم تحولت مع مرور الزمن إلى صناعة راسخة ينتظرها الناس كل عام. تتنوع الحلوى التى تُعرض فى الموسم، ولكل منها مذاق خاص ورمزية محببة، الحمصية والفولية والسمسمية، والملبن، والعرائس والأحصنة السكرية، من الورش الشعبية تبدأ القصة، يُذاب السكر ويُكرمل على النار، وتُحمّص المكسرات قبل أن تُدمج فى ألواح تُقطع إلى أشكال صغيرة، أما العرائس والأحصنة السكرية فتُصب فى قوالب خاصة وتُزيَّن بالألوان وأشرطة الزينة، وبعد مراحل التغليف والتعبئة، تنتقل إلى الأسواق حيث ينتظرها الصغار والكبار. لم تكن العرائس السكرية والأحصنة مُجرد حلوي، بل رمزًا للبهجة الشعبية، فالعروسة المُلونة كانت تُهدى للبنات، بينما الحصان يُقدّم للصبيان، ومع مرور الأجيال، أصبحت هذه المُجسمات جزءًا لا يتجزأ من طقوس المولد، تحتفظ بمكانتها رغم تغيّر الأزمان. ◄ لوحات الاحتفال الشعبي بالقرى والنجوع| «الليلة الكبيرة».. محبة وفرحة ورزق لا يأتى المولد النبوى إلى القرى والنجوع كمُجرد ذكرى دينية عابرة؛ بل موسما تتجدد فيه الروح الجماعية وتتماسك الأواصر، تمتزج المدائح بالطبول، وروائح البخور بحلاوة المولد، وتتحول الساحات الصغيرة إلى مسارح للذكر، والأزقة إلى مواكب للحضرة، بينما تنهمك الأسر فى طقوسٍ اختبرت الزمن وحافظت على دفئها. المنازل والبيوت تشهد أعمال تنظيف واسعة، وتعليقا لشرائط القماش الملوّنة، ورش السكر والسمسم تعمل بطاقتها القصوى لإنتاج «حلاوة المولد» والعرائس والأحصنة، بينما تُزيَّن واجهات المحال بمصابيح صغيرة، وشباب القرى ينصبون «خيمة المولد» فى الساحة، يضبطون مكبّرات الصوت، ويحددون برنامج الليلة «تلاوة، إنشاد، كلمة لشيخ الطريقة، ثم الحضرة». ◄ قلب الساحة ومع مغيب الشمس، تتشكل حلقة الذكر فى قلب الساحة، يجلس كبار السن على أطراف الحلقة، والشباب فى الداخل، وبينهم مشايخ الطريقة الشاذلية أو الرفاعية أو البدوية بحسب ما يغلب على القرية، يبدأ الذكر بقراءة يسيرة من السيرة العطرة، ثم تتوالى أسماء الله الحسنى والصلاة على النبى بإيقاع يعلو ويخفت، كأن الأنفاس تُدرَّب على الطمأنينة، فالذكر هُنا ليس استعراضًا؛ إنه تربية وجدانية علّمت أجيالًا ضبط اللسان واليد والقلب، وكثير من القرى تُخصص جانبًا للسيدات، يشاركن بالإنشاد الجماعى من خلف ساتر أو داخل دور مناسبات قريبة. ◄ الذكر والحضرة وبين الذكر والحضرة، تُفسح مساحة لكلمة موجزة من إمام المسجد أو واعظ الأزهر، عن موضوعات مُهمة كالرحمة فى السيرة، صلة الرحم، أمانة الكلمة على وسائل التواصل، و«الاحتفال بالسنّة لا بالشكل فقط»، وحين تكتمل الحلقة، يُعلن المُنشد: «يا أهل المحبة حضروا القلوب»، فتتشكل دائرة أوسع، يتحرك المشاركون بحركات متناسقة، يميلون يمينًا ويسارًا، يردّدون «الله.. الله» و«صلّى على النبي»، بينما يقود الشيخ الإيقاع، حيث تتداخل «المدائح» مع مقاطع من بردة البوصيري، وأشهر القصائد الشعبية التى تحفظها الصدور. يحمل الصغار عرائس السكر والأحصنة، يتنافسون فى تزيينها بشرائط لامعة، ويرددون أهازيج بسيطة تعلموها من الجدات، وتتحول «هدية المولد» إلى مناسبة تربوية تروى حكايات عن «النبى محمد الصادق الأمين»، ووصايا عن الصدق والرحمة ومُساعدة الجيران، بينما تتولى النساء إعداد صوانى «الفتة» والكسكسى والفتّة بالسمن البلدي، وتوزيع أطباق الحلوى على الجيران، وكثيرًا ما تبدأ المصالحات على أيديهن فدعوة على عشاء المولد تنهى خصومة امتدت شهورًا، وفى بعض النجوع، تُنظم الجمعيات الصغيرة «صندوق المولد» لشراء كسوة بسيطة للأيتام وتوزيع الكراتين الغذائية على المحتاجين. حول الساحة، يمتد «سوق المولد» المؤقت، حيث باعة الحلوي، وبسطات المسبحة والبخور، وألعاب الأطفال، وترتفع حركة البيع والشراء أسبوع المولد بنسبة ملموسة، وتنتعش مهن تقليدية كصناعة العرائس السكرية و«النفّار» الذى يعلن الليلة الكبيرة، وتشهد أغلب القرى رواجًا للعمالة الشبابية المؤقتة فى التركيب، الإضاءة، الترتيب، والتنظيف، كما أن السوشيال ميديا بات لها دور كبير فى الترويج للاحتفالات فصفحات القرى على «فيسبوك» تُعلن برنامج الليلة وتبث مقاطع مُباشرة من الإنشاد، وتعلن غالبًا عن جيل جديد من المنشدين يجمع بين المقامات الشعبية والتجويد المُحسّن، ويستعيد نصوصًا تراثية بصيغ عصرية. ◄ لحظة كاشفة يبقى المولد فى القرى والنجوع لحظة كاشفة لما رسخ فى الوجدان من محبة النبى ، وكاشفة لقوة الروابط التى تربط الناس ببعضهم ما بين حلقة ذكرٍ تنحت السكينة فى القلوب، وحضرةٍ تلمّ شتات الروح، وسوقٍ يعجُّ بالضحكات والروائح، تتبدى صورة مصر العميقة، بسيطة، دافئة، متماسكة، تضع المحبة فى مركز المشهد. ◄ من بردة البوصيري إلى أصوات الأوبرا.. الإنشاد في حضرة المحبوب ■ كتب: عصام عطية لا توجد تجربة إنسانية أعمق من لحظة اتصال القلب بروح النبى . تلك اللحظة التى تتحول فيها الكلمات إلى مدائح، والأصوات إلى أذكار، واللحن إلى جسر بين الأرض والسماء، ومنذ قرون طويلة، حملت المدائح النبوية فى مصر والعالم الإسلامى ميراثًا روحانيًا وفنيًا، جعلها ليست مجرد أشعار تُتلى أو ألحان تُغنّي، بل خطابًا وجدانيًا يعكس علاقة خاصة جدًا بين الناس ورسولهم الكريم. من قصائد الإمام البوصيرى التى نُسجت بروح العاشق الصادق، إلى صوت أم كلثوم الذى مزج الطرب بالخشوع، تمتد هذه الرحلة لتكشف عن ملامح ثقافة كاملة، جعلت من المدائح النبوية فنًا خالدًا لا يموت. ◄ شاعر العشق النبوي في القرن السابع الهجرى ظهر شاب مصرى من دلتا النيل اسمه محمد بن سعيد البوصيري، حمل فى قلبه عشقًا جارفا للرسول . كان شاعرًا مجيدًا، لكنه لم يخلُد إلا حين كتب قصيدته الأشهر البردة، تلك التى صارت مفتاحًا لعالم من المحبة والروحانية. في العصر الحديث أعادت أم كلثوم صياغة العلاقة بين المديح والفن. بصوتها الساحر، قدمت روائع مثل نهج البردة لأحمد شوقى ووُلد الهدي، فحوّلت النصوص الكلاسيكية إلى أيقونات غنائية تصل إلى الملايين داخل مصر وخارجها، وكانت «كوكب الشرق» تجسد كيف يمكن للفن الراقى أن يحيى النصوص القديمة فى ثوب جديد، دون أن تفقد روحها الأصلية. ثم جاء جيل جديد من المنشدين، أبرزهم الشيخ سيد النقشبندي، الذى ارتبط اسمه بالإذاعة المصرية وأصبح صوته رمزًا للمدائح والابتهالات. لم يكن النقشبندى منشدًا عاديًا، بل مدرسة قائمة بذاتها، جمعت بين قوة الأداء وصفاء الروح، إلى جانبه، تألق الشيخ نصر الدين طوبار بصوته الرخيم الذى أضفى على المديح طابعًا ملحميًا، جعل المستمع يشعر وكأنه فى حضرة روحانية خاصة. ◄ مداح الصعيد وفى العقود الأخيرة برز اسم الشيخ ياسين التهامي، الذى حمل المدائح من الزوايا الصوفية إلى الساحات الشعبية فى الصعيد. بأسلوبه الفريد الذى يمزج بين التراث الشعبى والإنشاد الصوفي، استطاع أن يجذب جمهورًا واسعًا، ليجعل من حفلاته طقسًا روحيًا وفنيًا يجمع الآلاف. ويقول مصطفى النجدى صوليست فرقة الموسيقى العربية ومدرّب الأصوات بفرقة الإنشاد الدينى بدار الأوبرا المصرية: «تطور علم الموسيقى والمقامات، فأصبح للمديح طابع خاص يجمع بين الجمال الروحانى والجمال الفني. وفى بدايات القرن العشرين، جاءت موسيقى سيد درويش لتفتح الباب أمام أجيال مثل الشيخ على محمود - إمام المنشدين - مرورًا بالشيخ طه الفشنى والشيخ محمد رفعت وغيرهم». أما المطربة أميرة أحمد التى شاركت في احتفال مولد النبى على المسرح الكبير بدار الأوبرا، فتقول: «اليوم تُقدَّم حفلات الإنشاد الدينى بشكل عصري، نغنى أعمال أم كلثوم وياسمين الخيام بتوزيعات جديدة. وهناك أصوات عالمية مثل سامى يوسف الذى غنى قمر سيدنا النبى ، مما يؤكد أن المديح النبوى يظل متجددًا عبر الأجيال». ◄ محبة واحدة وطقوس متعددة.. كرنفال عالمي انطلق الاحتفال بالمولد النبوى الشريف من مصر ليعم العالم الإسلامى كله، ومع تنوّع الأقطار والبلدان الإسلامية تنوّعت أشكال التعبير عن المحبة وطقوسها. ورغم تعدد الأجناس واختلاف اللهجات، إلا أن معظم شعوب العالم الإسلامي تحتفل بالمولد النبوي، وإن اختلفت التفاصيل.. ففى باكستان، تُمنح إجازة رسمية بهذه المناسبة، وتُزيَّن المبانى بالأضواء، ثم ينطلق موكب ضخم فى العاصمة إسلام آباد يشارك فيه أبناء الطوائف كافة، يرتدون الأبيض ويحملون الأعلام الخضراء، مرددين هتافات أبرزها: «مرحبًا يا مصطفى». وفى الهند يُنظَّم بعد صلاة الفجر مجلس للذكر تُتلى فيه المدائح النبوية، ثم يوزع القادرون الطعام، قبل أن تنطلق المسيرة الكبرى ذات الطابع الكرنفالي. وفي إندونيسيا تأخذ الاحتفالات طابعًا صاخبًا يشمل مسابقات لتلاوة القرآن، وصلاة جامعة في المساجد الكبرى، إلى جانب مواكب ضخمة تعرف محليًا باسم «سكاتين» (أى الشهادتين). ولا يختلف المشهد كثيرًا فى إفريقيا، حيث تنظم الطرق الصوفية احتفالات كبيرة فى غرب القارة.