نشرت مجلة فورن أفيرز الأمريكية تقريرا مطولا حول مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وإمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة، مؤكدة أن هذا الخيار، على الرغم من العقبات السياسية والأمنية، قد يمثل المخرج الأفضل لإسرائيل نفسها قبل الفلسطينيين. ويأتي التقرير بعد عقود طويلة من محاولات التسوية الفاشلة منذ حرب عام 1967 وصدور قرار مجلس الأمن رقم 242، ومع تزايد التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الدولة العبرية، وتراجع الدعم الدولي لها نتيجة سياساتها في الأراضي الفلسطينية. لحظة حاسمة يشير التقرير إلى أن إسرائيل أمام لحظة حاسمة في تاريخها السياسي والأمني، إذ باتت أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الانخراط بجدية في عملية دبلوماسية تؤدي إلى حل الدولتين، أو مواجهة عزلة متزايدة وتهديدات ديموغرافية وسياسية تهدد طابعها اليهودي والديمقراطي. ويرى التقرير أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة، قابلة للحياة، وذات سيادة، يمكن أن تخدم المصالح الاستراتيجية لإسرائيل، وتفتح الباب أمام سلام إقليمي أوسع، وتعزز استقرار المنطقة، وتحمي إسرائيل من خطر الانزلاق إلى صراع دائم لا نهاية له. عقود من الجمود منذ أكثر من نصف قرن على حرب عام 1967 وما أعقبها من صدور قرار مجلس الأمن 242 القائم على مبدأ الأرض مقابل السلام، لم ينجح الإسرائيليون والفلسطينيون في التوصل إلى تسوية نهائية، ورغم محاولات عديدة في العقود الثلاثة الماضية، فشلت الدبلوماسية في رأب الصدع، لأسباب ترتبط بعجز القيادات الفلسطينية عن تقديم تنازلات جوهرية حول القدس، واللاجئين، والأراضي، وكذلك لرفض حركة حماس الاعتراف بإسرائيل. ويؤكد التقرير أن الفلسطينيين دفعوا ثمنا باهظا لهذا الفشل، إذ يعيش أكثر من خمسة ملايين فلسطيني تحت السيطرة الإسرائيلية، بينما تعقدت فرص العودة إلى تسوية مماثلة لما رُفض في الماضي بسبب التغيرات الديموغرافية والميدانية. تحولات ميدانية أبرز التقرير العقبات المتنامية أمام حل الدولتين، وعلى رأسها المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، حيث يعيش اليوم أكثر من نصف مليون مستوطن في 140 مستوطنة مرخصة و200 بؤرة استيطانية غير شرعية، هذه الوقائع على الأرض تجعل مبدأ الأرض مقابل السلام أكثر صعوبة، وتزيد من كلفة أي إعادة توطين مستقبلية. كما يشير التقرير إلى تحول الخريطة السياسية داخل إسرائيل نفسها، مع صعود أحزاب اليمين القومي والديني وتراجع قوى اليسار، وقد تسارع هذا التحول بشكل أكبر بعد الهجوم على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، ما عزز خطاب الحكومة الائتلافية بقيادة بنيامين نتنياهو، التي تستند إلى دعم قوى يمينية متطرفة. انعكاسات أمنية يرى تقرير "فورن أفيرز" أن إسرائيل تعيش حاليا أفضل وضع أمني في تاريخها، إذ تراجعت التهديدات التقليدية من جيرانها، وضعفت إيران وحلفاؤها نسبيا، لكن هذه البيئة الأمنية المواتية ليست مضمونة، فغياب حل سياسي مع الفلسطينيين يهدد بإبقاء الصراع مفتوحا، وبإدخال إسرائيل في مواجهة مع المجتمع الدولي. ويشير التقرير إلى أن إقامة دولة فلسطينية، بشروط تضمن أمن إسرائيل، قد تسهم في احتواء العنف أكثر من استمرار الاحتلال، لأن الدولة الفلسطينية ستكون مسؤولة عن ضبط حدودها ومحاسبة الفصائل التي تخرج عن القانون، في حين أن غياب الدولة يوفر بيئة خصبة للجماعات المسلحة للعمل دون مساءلة. البعد الدولي والإقليمي يحذر التقرير من أن الدعم الأمريكي والأوروبي لإسرائيل ليس مضمونا على المدى الطويل، فالصورة السائدة عن إسرائيل كدولة منبوذة تحرم الفلسطينيين من حقوقهم قد تدفع إلى فرض عقوبات أوروبية وتراجع الدعم الشعبي الأمريكي، خاصة بين الأجيال الشابة من اليهود الأمريكيين. كذلك، فإن حل القضية الفلسطينية سيساعد على توسيع دائرة اتفاقيات التطبيع العربي مع إسرائيل، فقد أوضح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن انخراط بلاده في عملية تطبيع شامل مرهون باستعداد إسرائيل لإحياء حل الدولتين، كما أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة ستخفف الضغوط على الأردن، وتعزز استقرار المنطقة، وتسمح لإسرائيل بالتركيز على تهديدات استراتيجية أخرى مثل إيران. معضلة وجودية يرى التقرير أن غياب حل الدولتين يضع إسرائيل أمام معضلة وجودية، فإما أن تمنح حقوقا متساوية للفلسطينيين في الضفة وغزة، بما يهدد طابعها اليهودي، أو تستمر في حرمانهم من الحقوق، بما يهدد طابعها الديمقراطي. كما أن استمرار الاحتلال يزيد من مخاطر تطرف المواطنين العرب داخل إسرائيل، ويعزز من عزلة إسرائيل الدولية، في المقابل، فإن قبول إقامة دولة فلسطينية قد يحافظ على التوازن الداخلي، ويمنح إسرائيل مخرجا من وضعية الدولة المنبوذة. أبعاد اقتصادية يشير التقرير إلى أن الانفتاح الإسرائيلي على دولة فلسطينية سيقلل من خطر العقوبات الاقتصادية الأوروبية، ويحد من التباعد المتزايد مع الولاياتالمتحدة، كما أنه قد يفتح الباب لمساعدات دولية ضخمة لإعادة بناء الدولة الفلسطينية، وتوطين المستوطنين، وتعزيز الاستقرار الإقليمي. ويؤكد التقرير أن البدائل الأخرى أسوأ بكثير، فاستمرار الاحتلال سيؤدي إلى صراع أبدي، بينما الدولة الواحدة ستقوض إما يهودية إسرائيل أو طابعها الديمقراطي، أما التهجير القسري فسيؤدي إلى انفجار إقليمي وزعزعة استقرار الدول المجاورة. مسؤولية الولاياتالمتحدة بحسب التقرير، على الولاياتالمتحدة أن تلعب دورا محوريا في إعادة إطلاق المسار السياسي، من خلال الضغط على إسرائيل لوقف التوسع الاستيطاني، وربط الدعم السياسي والاقتصادي بمراعاة حقوق الفلسطينيين، كما يجب أن تطرح واشنطن وحلفاؤها رؤية متكاملة تشمل ضمانات أمنية لإسرائيل، ودعما اقتصاديا للدولة الفلسطينية، والتزاما طويل الأمد ببناء المؤسسات الفلسطينية. ويرى التقرير أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بشعبيته لدى الإسرائيليين واليهود الأمريكيين والإنجيليين، قد يكون في وضع يسمح له بفرض تسوية تاريخية، مثلما فعل الرئيس ريتشارد نيكسون مع الصين. الخيار الأفضل لإسرائيل خلص تقرير فورن أفيرز إلى أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة تمثل الخيار الأفضل لإسرائيل نفسها قبل الفلسطينيين، وأن الوقت قد حان لاتخاذ خطوات جادة نحو حل الدولتين، فإما أن تسعى إسرائيل إلى تسوية سلمية تُخرجها من دائرة الاحتلال والعزلة، أو تواجه مستقبلا من الحرب الأبدية والعزلة الدولية. واستشهد التقرير بقول وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق أبا إيبان: "العرب لا يفوتون أبدا فرصة لتفويت الفرصة"، لكنه أضاف أن هذا القول أصبح ينطبق اليوم على إسرائيل أيضا، فإسرائيل لم تكن يوما أكثر أمنا من الآن، ولم تتوفر لها فرص سلام إقليمي كما هو الحال اليوم، ومع ذلك فإن هذه الفرصة قد لا تتكرر. ويؤكد التقرير أن الولاياتالمتحدة وأوروبا والدول العربية مدعوة إلى لعب دور فاعل في بلورة هذا الحل، لكن يبقى على الفلسطينيين أن يثبتوا استعدادهم للتعايش بسلام، وعلى إسرائيل أن تظهر إرادة سياسية حقيقية. فالخيار المطروح أمام إسرائيل اليوم واضح: الآن أو لا شيء.