قد يظن البعض أن ما يقوم به «النباشين»، في صناديق القمامة المتواجدة في الشوارع والميادين، هو مجرد بحث عن ملابس قديمة أو بعض الأشياء للاستفادة منها، ولكن في حقيقة الأمر، أن ما يقوم به «النباش»، هو أول مرحلة تقود عملية اقتصادية كاملة، تشمل العديد من الصناعات المتنوعة، التي تساهم بشكل كبير في دفع عجلة الإنتاج. وكشفت جولة ميدانية أجريناها، بإحدى المناطق في نطاق محافظة القاهرة، ما يقوم به «النباش»، فشاهدنا أن تواجد العديد من صناديق القمامة التابعة للأحياء، تفصل بينها وبين الأخرى عدة أمتار، يقف على كل منها شخص يرتدي ملابس «رثة»، وبجواره «شوال» كبير الحجم، يقوم بالنبش داخل صناديق القمامة في المكان المخصص له، وينتظر المواطنين لفحص أكياس القمامة التي يقومون بإلقائها. ◄ مملكة النباشين ولاحظنا تعالي الأصوات بين اثنين من النباشين، وتبادلا السباب والشتائم، باستطلاع الأمر، تبين أن أحدهما تعدى على منطقة الآخر، وهو ما يؤكد على أن «مملكة النباشين»، لها قواعد وتحقق مكاسب كبيرة لكل من يعمل بها. وبالحديث مع أحد النباشين، أكد أنه يعمل في هذه المهنة منذ عدة سنوات، ويبدأ يومه منذ الصباح الباكر، في المكان المخصص له، ويقوم بنبش صناديق القمامة، للبحث عن «الزجاجات البلاستيكية، الكرتون، عبوات الكانز»، مشيرًا إلى أنه يقوم بتجميع كميات لكل صنف على حده، ويقوم ببيعها للتجار. وأضاف أن كيلو الكرتون يباع ب 4.5 جنيه، والطن يصل ل 4 آلاف جنيه، ويبلغ سعر الكانز 70 جنيهًا للكيلو، مشيرًا إلى أن هناك حلقات متصلة من تاجر لآخر، حتى تصل للمصانع المخصصة لكل نوع، مشيرًا إلى أن المصانع تقوم بصهر المنتج وإعادة تصنيعه مرة أخرى. انتقلنا بجولتنا إلى مدينة شبرا الخيمة، وشاهدنا أوضاع مختلفة للنباشين، فلم تعد المسألة مجرد أفراد يبحثون عن لقمة عيش وسط النفايات، بل تحولت إلى نشاط منظم تديره أيادٍ خفية من البلطجية، تفرض إيجارًا يوميًا على المقالب، فيما ينغمس النباشون في ممارسات أخطر بكثير من فرز القمامة، أبرزها تلويث هواء المدينة عبر حرائق متكررة. ◄ من لقمة عيش إلى اقتصاد منظم بين أنفاق المؤسسة وكوبري المشاة، يقضي هؤلاء لياليهم وسط المخدرات والقمامة المشتعلة، ليبقى السؤال: إلى متى تظل شبرا الخيمة رهينة لهذا الخطر الصامت؟ فمن المسؤول عن هذه الفوضى؟ وهل ستظل مصر تدفع ثمن تجاهل ملف النباشين، بينما يتنامى دورهم كاقتصاد خفي يبتلع المنظومة الرسمية لإدارة القمامة. من جانبه، كشف د. حسام عبد الحكيم، طبيب التغذية العلاجية، والمرشح المحتمل لمجلس النواب، والمهتم بالشأن العام في شبرا الخيمة، عن كواليس خطيرة لظاهرة النباشين في المنطقة، موضحًا أن البلطجية يؤجرون مقالب الزبالة للنباشين بمبالغ تصل إلى 150 جنيهًا يوميًا، ليتحول المكان إلى سوق غير رسمي يديره الخارجون عن القانون. وأضاف أن النباشين لا يقتصر نشاطهم على فرز القمامة، بل يتورطون في سرقة كبائن الكهرباء والتليفونات وعدادات الكهرباء والمواتير وأغطية البلاعات، بل وصل الأمر إلى نهب أجزاء من سور كوبري عرابي والفرنواني وحتى بوابات حديد خاصة بالمنازل، ثم يقومون ببيع تلك المسروقات لمحلات الخردة التي تخفيها في مخازن سرية. ◄ نيران القمامة والمخدرات في الأنفاق وأكد د. حسام عبد الحكيم، أن 99% من النباشين مدمنون للمخدرات، ويقيمون ليلهم في نفق المؤسسة وكوبري مشاة المؤسسة، الأمر الذي يضاعف من خطورة الظاهرة، خاصة أنهم يتسببون في حرائق متكررة نتيجة إشعالهم النيران في أكوام القمامة المتناثرة، مشيرًا إلى إن هذه الممارسات لم تعد مجرد انتهاكات فردية، بل تحولت إلى أزمة تمس حياة المواطنين بشكل مباشر. سرقة أغطية البالوعات تهدد أرواح المارة والأطفال بالسقوط والإصابة، وتكرار سرقة كبائن الكهرباء والعدادات يتسبب في انقطاع التيار وتشويه المظهر الحضاري للمنطقة، بينما سرقة أجزاء من الكباري تمثل خطورة على البنية التحتية وسلامة المرور. أما حرائق القمامة فتؤدي إلى انتشار الأدخنة السامة وتلوث الهواء، مسببة معاناة يومية لآلاف الأسر. الأهالي يؤكدون أن وجود النباشين في أنفاق المشاة وعلى الكباري الرئيسية يثير حالة من الخوف، خاصة مع ارتباطهم بتعاطي المخدرات والسلوكيات العدوانية. ◄ كارثة بيئية واقتصاد خفي من جانبه، حذر الدكتور مجدي علام، خبير البيئة، من خطورة ما يفعله النباشون الذين وصفهم بأنهم «قنبلة موقوتة» تهدد الصحة العامة والاقتصاد والمظهر الحضاري للمدن، موضحًا أنهم يلتقطون من القمامة ما يصلح للبيع من بلاستيك وحديد وجلود، ثم يشعلون النار في البقايا، فتتطاير الأدخنة السامة التي تفتك بالهواء وتضاعف معدلات التلوث. اقرأ أيضا| أزمة القمامة في شبرا الخيمة عرض مستمر.. والأهالي للمحافظ: «اترك مكتبك وانزل الشارع» وأضاف «علام»، أن أي جهود حكومية ستظل بلا قيمة من دون تبني فكرة «الفصل من المنبع» ونشر الوعي البيئي بين المواطنين، مشددًا على ضرورة إدخال مادة دراسية للتربية البيئية، مؤكدًا أن القمامة «كنز لا يفنى»، والدولة أولى باستثماره عبر منظومة رسمية واضحة توفر آلاف فرص العمل. ولفت إلى أن القاهرة تضم أربع شركات لجمع وإعادة التدوير، بينما يستفيد الريف من تحويل المخلفات إلى «بيوجاز»، ويقدّم أهالي الوادي الجديد نموذجًا يحتذى به في إعادة التدوير وصناعة منتجات مبتكرة من الحقائب والسجاد والحصائر. ◄ «النباشين» فئة ضالة وفي ذات السياق، قال شحاتة المقدس نقيب الزبالين، إن «النباشين» فئة ضالة ليس للنقابة علاقة بهم، مشيرًا إلى أن النقابة استطاعت القضاء على 75% منهم في مختلف المناطق، طبقًا للمنظومة الجديدة التي قامت النقابة بتطبيقها بالتعاون مع الحكومة، تحت عنوان «من الوحدة السكنية للعربية»، موضحًا أن نسبة ال25% من النباشين، يتمركزون في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية مثل «إمبابة، شبرا الخيمة، والمظلات». وأضاف «المقدس»، أن النباشين هم أعداء الزبالين، لكونهم يعملون بشكل عشوائي، وهدفهم كسب المال دون النظر إلى المصلحة العامة، على عكس الزبالين، موضحًا أن فئة الزبالين لهم قطاع رسمي معترف به، ونقابة تتولى شؤونهم ولهم خبرة في المجال، ولا يعملون بشكل عشوائي، مشيرًا إلى أن النباشين يقومون بتجميع الزجاجات البلاستيكية، وعبوات الكانز، والكرتون، وبيعها للتجار في «مقالب المقطم». ◄ عمليات دفن القمامة وكشف نقيب الزبالين، عن أنه يتم جمع 16 مليون طن قمامة يوميًا من «القاهرة، الجيزة، القليوبية»، من بينهم 8 آلاف مواد صلبة، و6 آلاف مواد عضوية، يتم استخدامها كغذاء للخنازير، و2 طن غير قابلين لإعادة التدوير، يتم دفنهم في مناطق مخصصة في «شبرامنت بالجيزة، 15 مايو بالقاهرة، بلبيس بالشرقية»، موضحًا أن عمليات الدفن تتم تحت إشراف وزارات «الصحة، التنمية المحلية، البيئة»، مؤكدًا أن الحكومة قررت أن تشارك ال 3 وزارات في عمليات دفن القمامة. وأوضح «المقدس»، أن التجار الذين يقومون بشراء المواد الصلبة من النباشين وجامعي القمامة، يقومون بعملية «إعداد ما قبل التصنيع»، بمعنى فصل كل صنف على حده، وبيعه للمصانع الكبيرة، التي تقوم بإعادة التدوير مرة أخرى. وطالب نقيب الزبالين، الحكومة بالتدخل وتوفير فرص عمل للنباشين، مشيرًا إلى أن القضاء على عشوائياتهم يتطلب فرص عمل لهم، مؤكدًا أن النقابة مستمرة في مواجهتهم، حتى ينتهي وجودهم من كافة المناطق، موضحًا أن «الزبالين» يمتلكون سيارات لجمع القمامة، ولديه كافة البيانات الخاصة بهم، والحمولة التي تقوم بجمعها كل سيارة، موضحًا أن «الزبالين»، يعلمون على جمع القمامة من الوحدات السكنية والمنشآت السياحية. وبينما تبقى القمامة موردًا اقتصاديًا ضخمًا إذا ما خضع لإدارة منظمة، يظل ترك الساحة للنباشين عنوانًا لفوضى لا تنتهي، تتآكل معها صحة المواطنين وموارد الدولة وصورة المجتمع. فإما أن تُعلن الدولة خطة واضحة للتخلص الآمن من المخلفات وتحويلها إلى فرص عمل ومنفعة عامة، أو نظل ندفع جميعًا فاتورة عبث لا يرحم «إما أن نواجه فوضى النباشين اليوم.. أو نتركها لتلتهم غدنا بالكامل».