فى روايته الأخيرة «زهرة النار» يمارس الكاتب محمد سلماوى العديد من الحيل والمراوغات فى محاولة لتمرير رسالة مفادها أن ما يطرحه من مشكلات ونقاشات بين أبطاله لا تخص زمناً بعينه، وإنما هى أزمات - ربما - سيظل المجتمع يعانى منها مهما اختلفت الظروف، وتبدلت الأحوال يجسد فى روايته مثلًا مفهوم الصراع بين الفرد والسلطة، وتمسك المجتمع مع عاداته البالية. وبين رغبة شخصياته فى التحرر من أعباء المجتمع وعاداته وتقاليده، إلا أنهم فى كثير من المرَّات يعجزون عن التحرر من القيود التى توارثوها. أيضًا ورغم اختلاف حكايات شخوص الرواية، إلا أنهم تلاقوا جميعًا فى نقطة واحدة؛ ألا وهى الرغبة فى التحرر والثورة على كل شيء تقريبًا «العائلة، المجتمع، السلطة». يتنقل سلماوى أيضًا بسلاسة بين العديد من مستويات اللغة والمفردات، تارة يستخدم لغة شاعرية عذبة، وتارة أخرى يتخلى تمامًا عن مفرداته، إذ يطوع نصه بسلاسة وفقًا لتصاعد الأحداث بين أبطاله. نتحدث هنا مع سلماوى حول عمله الأخير، ونتعرف أيضًا على مشروعاته المستقبلية مع الكتابة. كتبت المسرح، والقصة، والشعر، والرواية.. ما الذى دفعك لكتابة «زهرة النار»؟ الكاتب لا يختار القالب الأدبى الذى يعبر فيه عن المضمون الذى يشغله فالمضمون يأتى عادةً مرتبطًا بشكله الفنى الخاص فلا تجد كاتبًا يقول لك إن لدى موضوعًا ولم أقرر بعد إن كنت سأكتبه فى شكل روائى أو قصصى أو أعالجه فى قصيدة، بل عادة تجده يقول لك إن لدى قصيدة تلح عليّ أو رواية تشغلني أو مسرحية أحاول إتمامها. فالشكل والمضمون فى الفن لا ينفصلان. فإذا تغير الشكل تغير بالضرورة المضمون أيضًا ولذلك حين نغير فى قالب بعض أعمال كتابنا الكبار ونحولها من رواية إلى مسرحية كما حدث مع بعض روايات نجيب محفوظ فإنها لا تخرج بنفس التأثير والنجاح الذى جاء فى قالبها الأصلى، وهذا سببه أنه حدث فصل تعسفى بين الشكل والمضمون، فالقالب هو الذى يفرض نفسه حسب الموضوع. و«زهرة النار» جاءت لى بشكلها الروائى الذى يقوم على سلسلة أحداث متتالية تعطى الانطباع والتأثير الذى كنت أنشده من خلال كتابة هذا العمل. الرواية بمثابة لعبة محيرة بالنسبة للقارئ فهى تتجاوز مفهوم الزمن.. تتحدث مثلًا داخلها عن فترة رئيس ما بعد كامب ديفيد، أى المفترض أن يكون السادات، ولكن فى نفس الوقت تتحدث أيضًا عن رئيس آخر فرنسى هو ماكرون.. أى أنك حاولت مراوغة القراء فيما يتعلق بزمن الرواية.. لماذا قمت بهذه اللعبة؟ هى بالفعل لعبة، أو بمعنى أصح حيلة من الحيل الأدبية والفنية المتعارف عليها تجد مثلًا فى مسرحية لشيكسبير، أحداثًا تعود للعهد الرومانى لكن تجد أن هناك بطلًا من الأبطال يسأل زميله عن الساعة بينما لم تكن هناك ساعات فى الفترة الرومانية. وهذا يسمى Anachronism، حين يريد الأديب التحرر من السياق التاريخى لكى يعبر بشكل أكثر حرية عما يريد قوله. وهذه أحد الفروق الأساسية بين كاتب التاريخ والكاتب الروائي كاتب التاريخ يلتزم بأحداث الفترة التى يتحدث عنها، بينما الكاتب الروائى له مطلق الحرية فى التجول والمرور عبر مختلف الأزمنة إذا أراد، إذ يأخذ من كل زمن ما يريده لكى يصوغ به فكرته أو عمله الروائي حين نجد فى «زهرة النار» إشارة إلى الرئيس الذى وقع اتفاقية كامب ديفيد، فهذا يحيلنا إلى فترة السبعينيات. وإذا وجدنا إشارة للهاتف المحمول والمواقع الإلكترونية، فهذا يحيلنا إلى العصر الحديث فى أى عصر نحن فى هذه الرواية؟ فى الحقيقة أننا لسنا فى هذا العصر ولا فى ذاك، وإنما الكاتب هنا يريد القول إن الحقيقة التى أقدمها لا تنحصر فى زمن واحد وإنما تقع فى كل الأزمنة وتنطبق على كل الحقب وقد أشرت إلى ذلك فى التنويه الذى وضعته فى بداية الكتاب. لماذا كتبت هذا التوضيح، أظن أنك لم تكن مضطرًا.. وضعته فى بداية الكتاب وليس فى بداية الرواية، فهو ليس جزءا من الرواية، لكنى وضعته حتى لا يسألنى زميل صحفى عن تضارب الأزمنة فى الرواية كما فعلت معى الآن (يضحك)، لكن الرواية قائمة بذاتها وقادرة على الرد على أسئلتها بنفسها. ولكن هذا التوضيح جاء من الكاتب كما يشير بعض الكتاب إلى أن الشخصيات الواردة فى هذه الرواية كلها شخصيات تخيلية وليست من الواقع. لكنى أردت أن تكون المسألة واضحة، لأن بعض القراء غير متمرسين على هذه الأساليب فى الكتابة، وقد وضعت القارئ غير المدرب على الحيل الأدبية فى اعتباري. فمازال هناك من القراء يقيسون العمل الأدبى الذى هو نتاج الخيال بمقاييس الواقع، وهذا لا يجوز، بينما القارئ المثقف والمتمرس لا تشغله هذه الأشياء. لكن بعضنا يتوقع من الكاتب إعادة تقديم الواقع الذى هو موجود بالفعل من حولنا ولانحتاج للرواية لكى تقدمه لنا. إننا نحتاج للأدب لأنه يقدم لنا ما ليس موجودًا فى الواقع. ناقشت فى الرواية أزمة الحياة السياسية فى مصر، وأيضًا المشاكل الاجتماعية التى يعانى منها الكثيرون بسبب تمسكهم ببعض العادات الاجتماعية.. هل تعتبر أنها انعكاس لما يدور فى ذهنك حول أزمة المجتمع المصرى سواء سياسيًا أواجتماعيًا؟ بالتأكيد، لأن الرواية تقوم على الصراع بين الفرد الذى يسعى إلى تحقيق آماله وتحقيق ذاته، وبين القيود الجامدة التى يفرضها عليه المجتمع. سواء سياسيًا أو اجتماعيًا، والتى قد تحول دون تحقيق ما يريده. هذه هى القضية الأساسية فى الرواية وهى منعكسة مثلًا فى علاقة الحب التى نشأت بين البطل والبطلة؛ أى خالد وعالية، ولكن المجتمع لا يرضى عنها بسبب فارق السن، وأيضًا الفارق الطبقى والثقافى بين الطرفين. ومن ناحية أخرى، نجد مدحت صديق البطل يتطلع إلى تحقيق ذاته سياسيًا ونجد القيود السياسية التى يفرضها المجتمع تتعارض مع أمله وطموحه ومجهوده فى الوصول لتحقيق هدفه السياسي. ولكن قد يكون من الملاحظ أيضًا أنه بينما ينجح فى النهاية البطل فى تأسيس حزبه. لم يستطع خالد إكمال قصة حبه مع عالية كما أراد، وهذا يعنى أن القيود الاجتماعية قد تكون أكثرصرامة وجمودًا وتعقيدًا من القيود السياسية التى تتغير طبيعتها من وقت إلى آخر. شخصية خالد التى قدمتها كانت مركبة إلى حد بعيد، لكنه فى نفس الوقت كان مثاليًا فى علاقته بعالية، وحتى فى بعض قراراته.. هل تتفق؟ نعم ، لكن ذلك راجع إلى أنه مازال شابًا، الشباب عادة ما يكونو مثاليين، لكن لو وضعناه فى مقارنة مع صديقه مدحت، نجده أكثر واقعية من صديقه، خاصة عندما تحدث إليه عن أن فرص تأسيس الحزب الذى يريده غير واردة، فقد كان يرى الواقع السياسى على حقيقته، أى كان مقتنعًا أن الظروف السياسية لن تسمح بإقامة الحزب. لكن فى الأدب لا تكون الشخصيات مسطحة، وإنما عادة ما تكون مركبة حتى تكون حية ومقنعة لذلك أتفق معك أن خالد كان له جانب مثالي، لكنه فى نفس الوقت كان واقعيًا، وأيضًا مندفعًا تمامًا كطبيعة أغلب الشباب. كيف وظفت اللغة، الرواية كتبت فى بعض فصولها بلغة شاعرية ثم سرعان ما تخليت عنها فى بعض الفصول ثم عدت إليها مرة أخرى. الموضوع دائمًا هو ما يفرض نفسه على اللغة المستخدمة ومفرداتها فالمواقف السياسية تختلف عن المواقف العاطفية. ورغم وجود جانب سياسى واضح وجانب اجتماعى أيضًا داخل الرواية إلا أنها فى الأساس قصة حب متأجج ومتدفق بين البطل والبطلة، وهذا الأمر اقتضى أن تكون اللغة قريبة من الشاعرية فى مشاهد الحب، بينما لا يمكن استخدام نفس اللغة فى الحديث عن محاولات مدحت تأسيس حزبه السياسى، هنا تعمدت التخلى عن اللغة الشاعرية فى هذه الفصول، لأن الموضوع دائمًا هو ما يفرض علينا اللغة المستخدمة داخل العمل الأدبي. تطرح الرواية رؤيتين، ربما تتناسبان مع الواقع المصري، وهما متمثلتان فى شخصيتين لصديقين هما خالد ومدحت. فالأخير كان مثقفًا يؤمن بالعمل السياسي، بينما نأى خالد بنفسه عن لعبة السياسة تمامًا، وهو أمر يفضله كثير من المثقفين اليوم.. هل تعتقد أن على المثقف أن يكون فاعلًا فى الحياة السياسية؟ لا أعترف بالمثقف المنبت الصلة عن واقعه السياسى، فالمثقف بطبيعته يتعامل مع الواقع الذى حوله، ويستلهم أعماله من الواقع، ويطرح رؤيته لهذا الواقع. وهذا هو عمل الأديب، وليس له عمل آخر. قد يتصور البعض أن المثقف يجب عليه أن ينزل إلى الشوارع ويسير فى المظاهرات حاملًا اللافتات، وهو من حقه أن يفعل ذلك إذا أراد، لكنه إن فعل ذلك، فهو يفعله كمواطن وليس كمثقف لأن المثقف له وسائل أخرى لا يقدر عليها إلا هو، والمثقف يفترض أن يتعامل بالثقافة، وأن ينتج عملًا إبداعيًا نابعًا من الواقع. نجيب محفوظ مثلًا لم يخرج بمظاهرة واحدة فى حياته، لكنه فى المقابل أرخ للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية بأكثر مما تستطيع أى مظاهرة أن تقوم به. كما اشتبك مع الواقع السياسى وتفاعل معه لكن من موقعه ككاتب روائي، وقد تقوم رواية واحدة بما تعجز عنه المظاهرات مهما علت هتافاتها، فالمثقف، نعم، يجب أن يرتبط بالواقع، وأن ينبع فكره ومواقفه وآراؤه ورؤيته للحياة من هذا الواقع. ولكن هو يعبر عن ذلك بما لا يستطيع أن يعبر عنه غيره، وهو بالعمل الفنى الذى قد يكون أبعد تأثيرا من غيره، سواء كان أدبًا أو فنًا تشكيليًا أو عملًا موسيقيًا أو فيلمًا سينمائيًا. قلت على لسان عالية إن تعقب الشباب المهتم بخدمة الوطن ومنعهم من المشاركة السياسة لن ينتج عنه إلا جيل غير فاعل لا يشعر بالانتماء لبلده.. الرواية تتماس مع فترات مختلفة من تاريخ مصر، ما الذى أردت طرحه من خلال هذه الجزئية؟ أزمة غياب التواصل الحقيقى مع الشباب ليست أزمة فترة معينة فى تاريخنا، ولا هى أزمة خاصة بمجتمعنا وحده، وإنما أزمة جميع المجتمعات. لأنه دائمًا هناك فارقًا بين تطلعات الشباب وبين المجتمع حولهم. وأكبر دليل على هذا ما يحدث الآن من مظاهرات فى العالم تأييدًا لحق الفلسطينيين فى الدولة والمطالبة بالحرية لفلسطينولغزة. فالشباب الذى يقوم بهذه المظاهرات يجد أن المجتمع يتصدى له، وقد وجدنا دولًا تحتجز هؤلاء الشباب، بل وتفصلهم من جامعاتهم كما حدث فى الولاياتالمتحدة، وفى ألمانيا صدرت قرارات بمنع التظاهر من أجل فلسطين. فهذا الصراع بين الشباب والمجتمع صراع أبدى موجود فى كل العصور وداخل كل المجتمعات. وهو يحيلنا مرة أخرى إلى الحيلة التى تحدثنا عنها حين أشرنا إلى أكثر من حقبة فى تاريخنا لكى ندلل على أن الأزمة التى تقدمها الرواية تنطبق على كل العصور، بل هى تنطبق أيضًا على كافة المجتمعات وليس مجتمعنا وحده. اخترت «زهرة النار» عنوانًا لروايتك، هذه الزهرة التى تذبل، وتنطفئ ثم سرعان ما تعود حية وشابة مرة أخرى.. ما الرمزية التى أردتها من خلال هذه الزهرة، وهل يمكن اعتبارها إشارة بعيدة لحالة مصر؟ زهرة النار، هى زهرة تنمو فى أدغال إفريقيا، وتذبل وتتيبس وتصبح كقطعة الخشب، لكن إذا مستها نار الحرائق التى كثيرًا ما تجتاح الغابات، تتفتح من جديد وتطلق البذور التى بداخلها إيذانًا بجولة أخرى من الحياة. هذه الزهرة التى تنتشر فى جنوب إفريقيا بشكل خاص، اتخذتها رمزًا لبطلة الرواية لكن الرمز فى الأدب بطبيعته لا يدل على شيء واحد فقط، وإلا لا يصبح رمزًا، فالرمز بطبيعته يشع بالمعاني، فينطبق على أكثر من مستوى فى الأحداث. قد ينطبق على عالية بطلة الرواية هذه السيدة التى تصورت أنها محطمة نتيجة وفاة زوجها، حيث تيبست بداخلها المشاعر والعواطف. إلى أن مستها نار الحب فأحيت فيها هذه الأحاسيس مرة أخرى. ويمكن أيضًا كما أشرت أن ينطبق الاسم على البعد العام المتعلق بالمجتمع والذى قد يصبح هذا أيضًا رمزًا له، ففى حالة الأزمات، ينتفض المجتمع فينطلق لإحياء كل ما لديه من مخزون حضارى ليبدأ دورة حياة جديدة. ومصر فيها هذه الخاصية بشكل واضح، ونراها دائمًا فى أوقات الأزمات، حين تنتفض البلد وتحقق إنجازات لم نكن نتوقعها. وهذه الأمور لامسناها فى حرب السويس عام 1956 وفى حرب أكتوبر 1973، وغيرهما. خلال رحلتك انتقلت بين الكثير من فنون الكتابة، وعملت فى الصحافة، وتقلدت مناصب تنفيذية وقيادية، جمعت بين العمل الصحفى النقابي، وبين دورك كرئيس اتحاد كتاب مصر.. إلا أنك نجحت فى إدارة وقتك وحققت الكثير من النجاحات فى هذه الأمور جميعًا.. كيف حققت هذا التوازن؟ حياتى كلها قامت على التوازن والجمع بين الأنشطة المختلفة، مثل الصحافة، والأدب والعمل النقابى والعمل العام، لكن عملى الصحفى لم يجعلنى أتخلى عن الأدب، كما أن عملى النقابى سواء فى نقابة الصحفيين أو اتحاد الكتاب لم يحل دون العمل العام فى المجلس الأعلى للصحافة أو فى لجنة كتابة الدستور. وقد فعلت هذه الأمور جميعًا بالتنظيم تنظيم الوقت هو المفتاح الأساسى لكل شيء. الإنسان عمومًا كائن متشعب الاهتمامات؛ لذلك عليه أن يوازن بين أنشطته المختلفة. والشخص الذى ينكفئ عادة على عمل واحد ولا يحيد عنه، ربما يكون إنتاجه أكثر غزارة فى هذا المجال. لكنى لا أستطيع أن أفعل ذلك. النمطية تخنقني، بينما التنوع فى الأنشطة هو ما يجعلنى قادر على المواصلة، حتى فى قراءتى لا أقرأ كتابًا واحدًا فى وقت واحد، وإنما عادة أقرأ كتابين أوثلاثة فى نفس الوقت، وفى موضوعات مختلفة، وكلما مللت من واحد انتقلت إلى الآخر حتى انتهى منهم جميعًا. ما هو عملك القادم؟ أكتب حاليًا رواية جديدة، وهى قصة حب. لكنها تتماس مع حرب الإبادة التى تجرى فى غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى الآن. وكيف تنظر لتلك الحرب؟ أعظم ما فعلته حرب غزة أنها حررت القضية الفلسطينية من أسر التراجع والنسيان، لكنها أيضًا حررت العالم من أسر السردية الكاذبة التى سيطرت على العقلية الغربية لقرابة القرن من الزمان، وحددت مسار المجتمعات الغربية كلها. ولم يكن ممكنًا أن ينزع العالم هذه الغمامة التى كانت على أعينه ويرى الحقيقة بهذا الشكل الناصع إلا بما فعلته فلسطين. ففلسطين حررت العالم بهذه الحرب، وأصبح الآن العالم حرًا يرى الحقيقة كما هى على حقيقتها. وهذا موجود فى روايتى الجديدة.