المشهد فى جلسة مجلس الأمن الأخيرة حول الحرب على غزة كان لافتاً. مرة أخرى وقفت الولاياتالمتحدة معزولة عن العالم كله وهى تؤيد كل مزاعم إسرائيل وتبرر جرائمها النازية. كل أعضاء المجلس -بمن فيهم أقرب الحلفاء لأمريكا- أدانوا ما يجرى فى غزة من حرب إبادة وحصار جوع ومذابح للأطفال والنساء واستهداف للمستشفيات والصحفيين، والذى ما كان له أن يحدث وأن يستمر ويتصاعد لولا الدعم الأمريكى المطلق. كان «الفيتو» الأمريكى- كالعادة- قادرا على منع إصدار المجلس لقرار يعكس إدانة العالم لجرائم إسرائيل، لكنه «فى هذه المرة» لم يستطع أن يمنع أعضاء مجلس الأمن جميعا- باستثناء أمريكا- من أن يقولوا كلمتهم فى بيان مشترك يطلب الوقف الفورى والدائم والشامل وغير المشروط لاطلاق النار فى غزة، وإطلاق سراح الأسرى والرهائن، ويدين استخدام التجويع سلاحا فى الحرب ويؤكد مسئولية إسرائيل عن المجاعة فى غزة. والأهم أنه يسجل لحظة سياسية مهمة تقف فيها الولاياتالمتحدة معزولة عن العالم كله ما عدا إسرائيل، وتدرك فيها دول العالم «بمن فيهم أقرب حلفاء أمريكا»، أو من كانوا كذلك.. أن القبول بما ترتكبه إسرائيل من جرائم بدعم أمريكى سوف يعنى الانهيار الكامل والنهائى للنظام الدولى بأكمله. فى نفس اليوم «الأربعاء الماضى» كان البيت الأبيض يستضيف اجتماعا استثنائيا برئاسة ترامب وحضور كبار مساعديه ومستشاريه لبحث ما قيل إنه اليوم التالى لحرب غزة، وإن كانت حقيقته تنكشف بالمشاركين من الخارج فى الاجتماع الخطير. وأولهم «دريمر»، أهم وزراء نتنياهو وأقربهم إليه، ثم صهر ترامب ومستشاره السابق فى ولايته الأولى «كوشنر»، وتونى بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق صاحب الدور الكبير فى جريمة الحرب على العراق والذى ما زال موجودا على الساحة السياسية العالمية يؤدى أدوارا كثيرة مشبوهة ومنها دوره فى حرب غزة لخدمة أهداف إسرائيل وأمريكا! المبعوث الأمريكى ويتكوف استبق الاجتماع بأن واشنطون لديها رؤية متكاملة للأوضاع بعد الحرب، وبأن الخطة، تعكس الدوافع «الإنسانية» للرئيس ترامب. وجود كوشنر وبلير يكشف الكثير عما يتم التخطيط له بصرف النظر عن حديث «الإنسانية» التى لا ترى فى كل ما يحدث فى غزة أى إبادة جماعية والتى مازالت تصر على أن «المجاعة» أكذوبة يرددها العالم كرها فى إسرائيل وتحديا لأمريكا التى ستواصل دعمها لنتنياهو ولو على حساب مصالح أمريكا ومصير إسرائيل نفسها! وجود كوشنر وبلير هو الكاشف لرؤية واشنطن. كوشنر ليس فقط صاحب الدور الأكبر فى كوارث أمريكا بالمنطقة أثناء ولاية ترامب الأولى، وإنما هو أول من روَّج لحكاية الاستثمار «العقارى« لشاطئ غزة والتى أصبحت بعد ذلك- مشروع «ريفيرا الشرق الأوسط»- الوهمى الذى تحدث عنه ترامب بعد أسابيع فقط من بداية ولايته الثانية. وبلير ليس فقط هو المتهم بجرائم حرب أهمها قيادة بريطانيا للمشاركة فى حرب تدمير العراق وتضليل بلاده والعالم لتبرير الجريمة ولكنه شريك أساسى فى حرب الإبادة والتجويع فى غزة، ومؤسسة «تونى بلير»، التى يديرها كانت وراء تأسيس «مؤسسة غزة الإنسانية» الإجرامية للسيطرة على المساعدات وإدارة حرب الجوع بإشراف أمريكى إسرائيلي! وهى أيضا صاحبة مخطط «مدينة الخيام الإنسانية» التى يراد انشاؤها فى جنوبغزة لاستيعاب مليون فلسطينى تستهدف إسرائيل الآن تهجيرهم من مدينة غزة إلى الجنوب أولا ثم إلى الخارج إن أمكن!! وقد سبق أن نشرت «الفايننشال تايمز» البريطانية تفاصيل عن مخطط بلير لغزة بعد الحرب والتهجير يجسد وهم «ريفيرا الشرق» الذى لم يسحب من على الطاولة منذ أن تم طرحه قبل أكثر من ستة أشهر! نتنياهو كان رد فعله سريعا.. من ناحية الحرب مستمرة واقتحام مدينة غزة سيتم بدعم أمريكى. ومن ناحية أخرى ترحيب بأن تدير أمريكا القطاع بعد الحرب إذا أراد ترامب. والمهم الآن «عند التحالف الأمريكي- الإسرائيلى« أمران: إعداد مدن الخيام فى جنوبغزة لاستيعاب النازحين بعد اقتحام مدينة غزة ومحيطها واستكمال تدميرها وإجبار مليون من سكانها على النزوج وتوفير الطعام لهم مع استمرار تجويع باقى سكان القطاع، ولهذا يتحدث ويتكوف عن اهتمام ترامب بالجوانب «الإنسانية» التى تعنى تخيير الفلسطينيين بين القتل أو النزوح على أمل الحصول على بعض الطعام. وهو ما سيفيد أيضا «بالنسبة لواشنطن وتل أبيب» فى مواجهة إعصار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والغضب العالمى من الإصرار الأمريكى- الإسرائيلى على استمرار حرب الإبادة وحصار التجويع. مشهدان فى يوم واحد.. اجتماع مجلس الأمن وعزلة أمريكا من ناحية، واجتماع البيت الأبيض بحضور سماسرة الحروب والصفقات المشبوهة من جانب آخر. العالم كله يواجه غطرسة القوة فى أسوأ صورها.