قبل خمسة عشر عامًا شاهدت فيلم «عسل أسود» للفنان أحمد حلمى، وظلّت كلمات أغنيته الشهيرة «فيها حاجة حلوة» عالقة فى ذهنى، لم تكن مجرد أغنية، بل حالة شعرية غاصت فى سرّ العلاقة الخاصة بين المصرى ووطنه، علاقة تقوم على الحب المجرد دون حسابات المكسب والخسارة، فيها كثير من الاعتزاز بجذور دولة ضاربة فى التاريخ، والفخر بحضارة لا مثيل لها، والأهم من ذلك الاصطفاف العفوى خلف الوطن كلما تعرّض لخطر أو تشويه أو استهداف من خصومه. الفيلم، رغم طابعه الكوميدى، قدّم نقدًا لواقع المصرى المغترب، وما يواجهه من صعوبات عند عودته إلى بلده، حالة التيه بين عالمه السابق فى المهجر وبين واقع الحياة فى مصر، وحيرة البطل بين ما يقدمه جواز سفره الأمريكى من امتيازات بالمقارنة مع نظيره المصرى، وقد بدا ذلك بمثابة صرخة لضرورة إعادة الاعتبار للهوية والانتماء، والبحث الدائم عن «الحاجة الحلوة» التى تبقينا أوفياء لهذا الوطن رغم التحديات. المشهد تغيّر كثيراً الآن.. فالمصريون فى الخارج لم يعودوا مجرد مغتربين يتأرجحون بين انتماءين، بل أصبحوا فى الصفوف الأولى للدفاع عن وطنهم، وعن صورته، وعن مؤسساته، ورأيناهم الأيام الماضية يرفعون علم مصر فى مواجهة عناصر التنظيم الدولى للإخوان الإرهابى، ويتصدون طواعية لحملات التشويه والتحريض، والتى وصلت حد الاعتداء على سفاراتنا فى الخارج، وكذلك عمليات المتاجرة بقضية غزة لخدمة مخططات مشبوهة، تستهدف الدولة المصرية ودورها المركزى فى رفض التهجير القسرى وحماية الحقوق الفلسطينية. نحن أمام عمل بطولى حقيقى من المصريين فى الخارج، يمتد من الدعم السياسى إلى الدعم الاقتصادى، حيث أعلن البنك المركزى المصرى أن تحويلات المصريين العاملين بالخارج سجلت خلال السنة المالية الحالية مستوى قياسيًا غير مسبوق بلغ نحو 36.5 مليار دولار، ليحقق معدل زيادة قدره 66.2% مقارنة بنحو 21.9 مليار دولار فى السنة المالية السابقة، وهى دلالة واضحة على ثقة المصريين فى الخارج فى اقتصاد بلادهم وربحية الاستثمار فيه. البنك المركزى علق على هذه التدفقات القياسية ووصفها بالرافد الأساسى للاحتياطيات من النقد الأجنبى، وأنها أحد أسباب تعزيز الاستقرارين النقدى والمالى. والبطولة لا تقتصر على المستويين السياسى والمالى فحسب بل تمتد أيضاً إلى حماية الهوية الوطنية والثقافية لدى الأجيال الجديدة من المصريين، فقد باتت الجمعيات المصرية فى أوروبا وأمريكا تنظم أنشطة تعليمية وثقافية لأبناء الجيلين الثانى والثالث، بهدف ربطهم باللغة العربية والتاريخ والتراث المصرى، حتى يظل الانتماء راسخاً فى وجدانهم رغم بعد المسافات. والحقيقة أن الدولة المصرية بذلت جهودًا كبيرة فى السنوات الماضية لمد الجسور بينها وبين أبناء الوطن فى كل مكان حول العالم، ففتحت الباب أمام مشاركتهم فى صنع القرار السياسى عبر مشاركتهم فى الانتخابات، سواء بالتصويت أو خوض غمارها، فأصبح هناك ممثلون للمصريين بالخارج فى المجالس النيابية، كما سلط الإعلام المصرى الضوء على تجاربهم الناجحة، وقدم الكثير منهم إلى المصريين فى الداخل، وكرمهم الرئيس عبد الفتاح السيسى فى العديد من المناسبات، وهو ما يعكس اهتمامًا عالى المستوى من الدولة بتوطيد أواصر العلاقة والارتباط معهم، وسعى مصر للاستفادة من جهود كل أبنائها. وخلال النسخة السادسة من مؤتمر المصريين بالخارج الذى انعقد بداية الشهر الماضى أكد الدكتور مصطفى مدبولى رئيس الوزراء اهتمام الرئيس السيسى بتوفير كافة الإمكانيات لتلبية احتياجاتهم، وتعزيز روابطهم بالوطن، مع اهتمام خاص بأبناء الجيلين الثانى والثالث. ووصف المصريين بالخارج بأنهم «سفراء وطنهم»، القادرون على نقل الصورة الحقيقية عن إنجازات مصر إلى المجتمعات التى يعيشون فيها. كما سمعت من الدكتور بدر عبد العاطى عن عمل إنسانى مهم تقوم به الدولة حاليًا مع المصريين فى الخارج، وهو تكفلها بشحن جثامين المتوفين إلى أرض الوطن، حيث أُسندت المسئولية إلى السفارات والقنصليات لتقديم هذه الخدمة مجاناً للمتعثرين، وهذا فى إطار الرعاية الكاملة التى توليها الدولة لمواطنيها. فضلًا عن استجابة وزارة الخارجية لمطالب عديدة سابقة برقمنة الخدمات القنصلية، وذلك لتمكين المواطنين المصريين فى الخارج من الحصول على خدماتهم بسرعة وكفاءة أعلى عبر البعثات الدبلوماسية والقنصلية، وهو ما يشمل استخراج الوثائق الرسمية وإنجاز المعاملات القنصلية إلكترونياً. ولا يمكن إغفال الدور المهم للمؤسسات الدينية الوطنية -وعلى رأسها الأزهر الشريف والكنيسة القبطية- فى التواصل مع جاليات ممتدة فى أوروبا وأمريكا وأستراليا وخاصة الأجيال الجديدة من المغتربين الذين ولدوا فى المهجر وربطهم بجذورهم فى مصر. المصريون فى الخارج قوة هائلة تسهم فى دعم الدولة المصرية وجمهوريتها الجديدة الراغبة فى توظيف كل عناصر قوة أبناء المهجر لمصلحة مصر والمصريين، وهم حائط صد حقيقى يدافع عن مصر ومصالحها فى الخارج، وأثبتوا فى كثير من المواقف أن الانتماء ليس شعارًا تثبته أوراق رسمية، ولكن أرواح متمسكة بجذورها، لا تنتظر كثيرًا حتى تتحرك لتدافع عن كرامة وطنها وتحفظ سيادته وتدعم اقتصاده وتساعده فى تحسين مؤشراته الاقتصادية، وهو ما ينعكس بالضرورة على أشقائهم فى الداخل. إن الدرس الذى يقدمه هذا التحول من «عسل أسود» إلى «سفراء لمصر فى كل مكان» واضح الوطنية، وليس شعارات، بل مواقف عملية تظهر وقت الشدة، والمصريون فى الخارج أثبتوا أنهم جزء أصيل من معركة الدفاع عن الدولة المصرية، يردّون على الأكاذيب بالفعل لا بالكلام، ويؤكدون أن «الحاجة الحلوة» فى مصر لم تكن يومًا مجرد كلمات أغنية، بل حقيقة راسخة فى وجدان كل مصرى أينما كان.