في خضم سباق القوى الكبرى على النفوذ في آسيا، تفتح الهند بابًا بدا للكثيرين مفاجئًا بعد استقبالها وزير الخارجية الصيني وانج يي، في زيارة رفيعة المستوى، وفي لحظة يشهد فيها العالم احتدامًا في التوترات بين واشنطنوبكين. على غرار ذلك، أوضحت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، أن ما يحدث ليس تقاربًا حقيقيًا، لكنه رهانٌ هنديٌ خاسر على شريك لا يمكن الوثوق به. اقرأ أيضًا| هل تنهار مفاوضات التجارة بين واشنطنونيودلهي بعد قرارات ترامب؟ زيارة تحمل رسائل مُتناقضة في هذا الأسبوع، زار وزير الخارجية الصيني وانج يي العاصمة نيودلهي، في أول زيارة لمسؤول صيني كبير منذ اتفاق البلدين على "فك الارتباط" الحدودي في الهيمالايا العام الماضي. شملت اللقاءات، رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، ووزير خارجيته س. جايشانكار، ومستشار الأمن القومي الهندي، أجيت دوفال. تحدث مودي، عن "تقدم مطرد" منذ صدامات وادي جالوان عام 2020، بينما كرر وانج، خطابًا مألوفًا عن ضرورة أن يكون البلدان "شريكين لا خصمين"، وفي بادرة رمزية، قبل مودي دعوة الرئيس الصيني شي جين بينج للقاء على هامش قمة منظمة شنجاي للتعاون المقررة في أواخر أغسطس. لماذا الآن؟.. «خلفية الدعوة المُفاجئة» لم تُفسر نيودلهي علنًا سبب اختيار هذا التوقيت للقاء، لكن وراء الكواليس، يبدو أن التدهور الحاد في العلاقات مع واشنطن هو ما دفعها إلى مد اليد لبكين. فالعلاقات الأمريكيةالهندية، التي عاشت سنوات من التعاون الوثيق في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والطاقة، دخلت فجأة في مرحلة اضطراب غير مسبوقة. أزمة مع واشنطن.. باكستان على الطاولة من جديد كان الشق الأمني، أول مسمار في نعش الثقة، فبعد وقف إطلاق النار بين الهندوباكستان في مايو، استضاف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قائد الجيش الباكستاني عاصم منير في البيت الأبيض، وما زاد الطين بلة، أن باكستان اقترحت منحه جائزة نوبل للسلام لدوره في التهدئة. وبالنسبة لنيودلهي، أعاد هذا المشهد إلى الأذهان عقودًا من العلاقات الأمريكية الوثيقة مع المؤسسة العسكرية الباكستانية، ما أثار شكوكًا بشأن حياد واشنطن. اقرأ أيضًا| أمريكا تعيد إحياء «جزيرة القنابل الذرية» استعدادًا لمواجهة الصين لكن الضربة الأقسى جاءت اقتصاديًا: ففي 31 يوليو، فرض ترامب رسومًا جمركية بنسبة 25% على الهند. وفي 6 أغسطس، هدد ترامب بالرسوم الجمركية الإضافية إذا لم توقف الهند شراء النفط الروسي. من جانبه، كتب مُستشار البيت الأبيض بيتر نافارو مقالًا في صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، يتهم الهند بإعادة بيع النفط الروسي في خضم الحرب الروسية الأوكرانية. كما هاجم وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، نيودلهي علنًا مُتهمًا إياها ب"التربح". أما الهند، وهي ثاني أكبر مشترٍ ل النفط الروسي بعد الصين، رفضت الرضوخ، فبالنسبة لصانعي القرار في نيودلهي، هذه الضغوط تمثل ازدواجية معايير أمريكية، خاصة أن الأسعار محددة مسبقًا باتفاق مع واشنطن نفسها. صدمة هندية من تقلبات ترامب كان المسؤولون الهنود يتوقعون استمرارية التعاون مع إدارة ترامب الثانية، لكن ما حدث فاق التوقعات، حيث حاولت نيودلهي تقديم بعض التنازلات التجارية، لكنها رفضت التنازل عن ملف النفط الروسي بشكل قاطع. ◄ ويرى المحللون وفقًا لمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، أن دوافع ترامب شخصية وتجارية، وهي: 1. شعوره بالإهانة من تصريحات هندية قللت من دوره في تهدئة النزاع مع باكستان. 2. إصرار فريقه على فتح السوق الزراعية الهندية المغلقة أمام المنافسة الأجنبية. كيف تستغل الصين اللحظة؟ في ظل هذه التطورات، بدا خيار التواصل مع الصين وكأنه محاولة هندية لتخفيف الضغط الأمريكي، فبكين لم تُفوّت الفرصة، بعدما قبلت دعوة وانج يي، وكان ذلك بالنسبة لها ورقة ذهبية لدق إسفين في علاقة نيودلهيبواشنطن. لكن الخبراء حذروا من أن "الهند تُراهن على شريك يعرف كيف يستخدم الفرص لصالحه، لا لصالحها". تحالف بكين – إسلام آباد اتضح المشهد فور انتهاء الزيارة، فمن نيودلهي، توجه وانج مُباشرةً إلى كابول ثم إسلام آباد، حيث أعلن عن اتفاق جديد لتوسيع الممر الاقتصادي الصينيالباكستاني ضمن مبادرة "الحزام والطريق". وهذه الخطوة بالطبع، رسخت أن العلاقة بين الصينوباكستان ثابتة واستراتيجية، بعكس الانفتاح المؤقت على الهند. دبلوماسية مُربكة للهند خلال الزيارة، أصدرت وزارة الخارجية الصينية، بيانًا مُثيرًا للجدل قالت فيه إن وزير الشؤون الخارجية الهندى، جايشانكار، أكد أن "تايوان جزء من الصين". واضطرت نيودلهي سريعًا للتوضيح أن موقفها لم يتغير، وبالنسبة للمراقبين، كان ذلك مثالًا على كيفية استخدام بكين للزيارات الرسمية لصياغة روايات تخدم مصالحها الخاصة. ورغم مرور 24 جولة من المحادثات، لا يزال النزاع الحدودي في جبال الهيمالايا دون تسوية، والهند تتوجس من الدعم العسكري الصينيلباكستان، الذي ظهر جليًا في الصراع الأخير عندما استخدمت إسلام آباد مقاتلات وأسلحة صينية. وهذا الواقع يجعل أي حديث عن "شراكة حقيقية" بين الجانبين أقرب إلى الوهم الدبلوماسي. وبالتالي، من الطبيعي أن تشعر نيودلهي بالخيبة من إدارة ترامب، لكن تحويل البوصلة نحو بكين ليس حلاً، فالصين لا ترى في الهند شريكًا استراتيجيًا، بل ورقة يمكن استغلالها ضد واشنطن. والتقارب «الظاهري» بين الجانبين لن يغير حقائق أساسية، أن بينهما «نزاعات حدودية، ورؤى سياسية مُتناقضة، وفارق متسع في القوة الاقتصادية والعسكرية». وبالتالي، ما اعتبرته نيودلهي «مُناورة ذكية» قد يتحول إلى فخ استراتيجي يضعها في عزلة بين واشنطنوبكين معًا...