من أعماق البحر المتوسط، تطفو الحكايات الدفينة عن مدن غارقة وكنوز مطمورة تروي تاريخًا عريقًا لمصر القديمة. ورغم أن مياه خليج أبي قير تخفي بين طياتها أسرار حضارات مضت، فإن الدولة المصرية وضعت هذا التراث المغمور في صدارة اهتماماتها، من خلال خطط دقيقة وجهود علمية متواصلة لاستخراج الكنوز، وحمايتها، وتحويلها إلى مصدر جذب سياحي عالمي. أكد خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان، عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، أن الدولة المصرية تخطو خطوات جادة في مجال حماية واستثمار التراث المغمور بالمياه، مشيرًا إلى توجيهات رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي منذ مايو الماضي بإعداد حصر شامل للآثار الغارقة بخليج أبي قير، ودراسة إمكانية استخراجها، ووضع خطة متكاملة لعرضها في المتاحف المصرية، فضلًا عن إعداد رؤية لمواقع الغوص السياحي المرتبطة بهذه الآثار. - مدن غارقة وتاريخ مفقود يوضح الدكتور ريحان أن منطقة أبي قير شرقي الإسكندرية كانت موطنًا لمدينتي هيراكليون ومينوتيس، والتي اشتهرت قديمًا باسم كانوب، على أحد أفرع النيل السبعة (الفرع الكانوبي). وقد لعب موقعها دورًا محوريًا في التجارة والملاحة قبل بناء مدينة الإسكندرية، حيث مثلت هيراكليون أحد أهم الموانئ المصرية. - بدايات الاكتشافات يشير الخبير إلى أن الكشوفات الأولى في أبي قير تعود إلى ثلاثينيات القرن العشرين حين لفتت القطع الغارقة انتباه طيار بريطاني أثناء تحليقه فوق الخليج، فأبلغ الأمير عمر طوسون، عاشق الآثار، الذي أجرى مسحًا شاملًا كشف عن بقايا معبد هيراكليون، وأوانٍ فخارية، وتماثيل مهمة بينها رأس الإسكندر الأكبر. وفي عام 1965، حقق الغواص المصري كامل أبو السعادات اكتشافًا بارزًا لثلاث سفن فرنسية غرقت خلال معركة أبي قير البحرية بقيادة نابليون ضد الأسطول الإنجليزي بقيادة نيلسون. - جهود حديثة واتفاقيات دولية واصلت البعثات المصرية والأجنبية جهودها، إذ قادت بعثة المعهد الأوروبي للآثار البحرية عام 2019 أعمالًا أسفرت عن العثور على 75 سفينة غارقة، وأطلال معابد من مدينة هيراكليون. كما أشار الدكتور ريحان إلى اتفاقية اليونسكو لعام 2001 الخاصة بحماية التراث الثقافي المغمور، والتي التزمت بها مصر لحماية حطام السفن والمدن الغارقة. - إنجازات قطاع الآثار الغارقة ولفت إلى إنشاء قطاع الآثار الغارقة عام 1996 برئاسة الدكتور إبراهيم درويش، والذي درّب فرقًا متخصصة للغوص والانتشال، ومن أبرز إنجازاته استخراج تماثيل مهمة مثل بطليموس الثاني أمام مكتبة الإسكندرية، والكاهن من الميناء الشرقي، وتمثال إيزيس من أبي قير، إضافة إلى قطع ذهبية ومجوهرات محفوظة بالمتحف القومي بالإسكندرية ومكتبة الإسكندرية. - حلم متحف تحت الماء يدعو الدكتور ريحان إلى تسريع خطوات إنشاء متحف خاص بالتراث المغمور في الميناء الشرقي بالإسكندرية، أقدم ميناء في العالم، أو حتى إقامة متحف تحت الماء بالقرب من موقع فنار الإسكندرية القديم، وهو مشروع طُرح منذ التسعينيات وتوقف لاحقًا. - مستقبل السياحة المغمورة وأكد أن استثمار هذا التراث يمكن أن يفتح مجالًا جديدًا لسياحة فريدة من نوعها، عبر إعداد مرشدين سياحيين غواصين، وتطوير التشريعات الوطنية بما يتماشى مع اتفاقية اليونسكو، بجانب دمج هذا التراث في خطط التنمية المستدامة والبحث العلمي. ويختتم الدكتور ريحان حديثه بالتأكيد على أن مصر تمتلك ثروة حضارية لا تقتصر على البر وحده، بل تمتد إلى أعماق البحار، وأن الاهتمام بهذا التراث المغمور سيكون إضافة نوعية للتاريخ الإنساني وللصورة العالمية لمصر كوجهة حضارية وسياحية. ويروي الدكتور ريحان واحدة من اللحظات المؤثرة في تاريخ الاكتشافات، حين انتشل الغواصون تمثالًا ضخمًا من الجرانيت يمثل إلهًا مصريًا قديمًا من أعماق هيراكليون. لحظة خروجه من الماء كانت أشبه بمشهد أسطوري؛ فقد انعكست أشعة الشمس على التمثال المبتل، وكأنه يستيقظ من سبات دام آلاف السنين. ساد الصمت بين الحاضرين للحظة، قبل أن يعلو التصفيق والدهشة في وجوه الغواصين والباحثين، الذين شعروا أنهم لا يستعيدون مجرد قطعة أثرية، بل يعيدون الحياة لمدينة كاملة غمرها البحر منذ قرون. اقرأ أيضا | الإسكندرية تحتفي بكنوزها الغارقة.. فعاليات علمية لإحياء التراث المغمور