بينما سعت الولاياتالمتحدة منذ الحرب العالمية الثانية لترسيخ مكانتها عالميًا في التقدم العلمي، والاستثمار الحكومي السخي في البحوث والابتكارات، تواجه بالوقت الحالي تحديات لاحتمالية تراجع مسيرة إمبراطوريتها، خاصة مع تسيييس إدارة ترامب للعلم وتقليص ميزانيات والتدخل في سياسات الجامعات ذات المكانة الدولية. أدي هذا المناخ المتوتر إلي تقويض ثقة المجتمع العلمي في المؤسسات الأمريكية وخلق شعورًا متزايدًا بعدم الأمان الفكري، ما دفع عدد منهم إلي البحث عن بيئة مناسبة لتشجيع الابتكار والبحوث مثل ألمانيا وكندا وسنغافورة وبالطبع الصين والتي تشجع الاستثمار في البنية التعليمية. الأمر الذي دفع مجلة «ذا أتلانتك» علي لسان كاتبها روس أندرسون بدق ناقوس الخطر، من خلال الاستشهاد بالتجارب السابقة وكيف أن لكل إمبراطورية علمية لها نهايتها. اقرأ أيضًا| تحليل إخباري| «الناتو الآسيوي».. شبح التجربة الأوروبية يطارد الولاياتالمتحدة خلال لقائه بالعالم الفيزيائي النووي بالاتحاد السوفيتي سابقًا، روالد ساجدييف، والذي استقر في الولاياتالمتحدة بعد انهيار الاتحاد، وسرد ساجدييف أن الانهيار بدأ بخطوات بسيطة لتقويض العلم وانتهت بانهيار متسلسل. يقول ساجدييف المدير السابق لمعهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا والذي ساهم في تطوير النووي السوفيتي، منذ بداية مسيرته المهنية عام 1955، كان العلم في الاتحاد السوفيتي يقترب من ذروته، حيث يتذكر أن برنامج الفضاء الروسي أذهل العالم حينها بإطلاقه أول قمر صناعي يدور حول الأرض. ويستطرد عندما تولى جوزيف ستالين السلطة، موّل بعض الأبحاث بسخاء، لكنه أصر على أن تتوافق مع أيديولوجيته، لدرجة وصف الكتب المدرسية بعهده، بأنه أبو جميع مجالات المعرفة، ونسب الفضل للسوفييت في كل اختراع تكنولوجي تم اختراعه على الإطلاق. وبحلول عام 1973، عندما عُين ساجدييف مُديرًا لمعهد أبحاث الفضاء السوفيتي- المعهد الرئيسي لعلوم الفضاء - كان السوفييت قد تنازلوا عن القيادة في المدار لوكالة ناسا، عندها استغل الأمريكيون الفرصة وحلق روادها الفضاء حول القمر كما تركوا العديد من بصماتهم بالمجال، ولكن بالمقابل كان معهد ساجدييف السوفيتي يعاني من أزمات مالية، ما اضطره للانضمام للحزب الشيوعي لضمان تمويل مُستقر. ورغم حصوله علي مكانة مرموقة عند تولي جورباتشوف السلطة عام 1985، وتعيينه مُستشارًا له، والوعد باتخاذ خطوات إصلاحية واسعة، سرعان ما تلاشت نظرته فيه، عندما عيّن رئيس الوزراء رجالًا اعتبرهم ساجدييف مقربين منه في مناصب علمية مهمة. ويستطرد الكاتب، وفي خضم حالة الانزلاق ، بعث ساجدييف رسالة إلى جورباتشوف عام 1988 يُحذره فيها من أن قادة برنامج الحاسوب السوفيتي العملاق يضللوه، بزعمهم أنهم يواكبون الولاياتالمتحدة، لكنهم في الواقع تخلفوا عنهم كثيرًا، وسرعان ما سيتفوق عليهم الصينيون. لم يُجب عليه جورباتشوف رسميًا، لكنه فهم بوضوح كيف استقبلت رسالته عندما سُحبت دعوته للانضمام إلى زيارة بولندا فجأة، وقيل له ببساطة: "لقد طُردت من الرحلة". وبعد بضع سنوات، بدأ التمويل الحكومي في التراجع، وبدأ زملاء روالد ساجدييف بالهروب من البلاد حيث كانت الولاياتالمتحدة الجهة الأكثر جاذبية للمواهب العلمية، كما استقر فيها ساجدييف حتي الآن يستحضر الكاتب قصة ساجدييف ليعقد مقارنة مع ما يجري اليوم في الولاياتالمتحدة، حيث روت له عالِمة بارزة في مجالها كيف أنها، منذ تنصيب دونالد ترامب للمرة الثانية، تابعت بدهشة وقلق كيف أخذت إدارته بإحكام هدم البيئة البحثية الأمريكية. ومثل كثيرين من الباحثين في الولاياتالمتحدة، لم تعد مُتأكدة من رغبتها في البقاء وسط هذا الانهيار التدريجي، وبدأت بالفعل تفكر جديًا في نقل مختبرها إلى الخارج. لافتا إلي ما تعرض له الباحثون الأجانب مُؤخرًا بعدم الترحيب بهم كما تعرضوا للمراقبة والمضايقة، كما اقترحت إدارة ترامب تخفيضات حادة في الميزانية في الوكالات التي تمول العلوم الأمريكية مثل مؤسسة العلوم الوطنية والمعاهد الوطنية للصحة ووكالة ناسا. ووفقا للكاتب، شهد تمويل العلوم الأمريكية تقلبات على مدار العقود، فقد ارتفع بعد إطلاق سبوتنيك وانخفض في نهاية الحرب الباردة. ولكن حتى تولي ترامب السلطة للمرة الثانية وبدء هجومه متعدد الجوانب على مؤسسات البحث الأمريكية، كان الدعم الواسع للعلوم أمرًا مفروغًا منه في ظل كل من الإدارات الديمقراطية والجمهورية. اقرأ أيضًا| لا مزيد من المجانية| ترامب يفرض على أوروبا معادلة «الحماية مقابل الدفع» وفي استطلاع رأي أجرته مجلة «نيتشر»، أن ثلثي العلماء الأمريكيين الذين شاركوا فيه، يفكرون في مغادرة البلاد، حيث خصص الاتحاد الأوروبي صندوقًا بقيمة 500 مليون يورو لجذب العلماء بجانب الصين، كما أعطت الحكومات الوطنية في النرويج والدنمارك وفرنسا - وهي أماكن لطيفة للعيش فيها جميعًا - الضوء الأخضر لموجات الإنفاق على العلماء الأمريكيين المحبطين. ويستخلص الكاتب بمقاله في المجلة الأمريكية، أن مسار العلم بطبيعته قد يتجه نحو اللامركزية، في ظل نظام عالمي متعدد الأقطاب، يشبه إلى حد ما النظام الذي ساد في القرن التاسع عشر، حين كانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا تتنافس على الريادة التقنية والعلمية. أما بوقتنا الحالي، ومع حلول منتصف القرن الحادي والعشرين، ستكون الصين قد أصبحت القوة العلمية المهيمنة عالميًا، كما كانت قبل ألف عام. وذلك بعد عقود من التراجع خلال الثورة الثقافية التي بددت خلالها خبرات علمية هائلة في عهد ماو تسي تونج، تمكنت الصين من استعادة عافيتها، وأعادت بناء مؤسساتها البحثية، مدعومة بتمويل حكومي سخي ومستقر تحت قيادة شي جين بينج. كما أضحت الجامعات الصينية تُصنف الآن ضمن الأفضل عالميًا، وينشر علماؤها أبحاثهم بانتظام في مجلات مرموقة مثل Science وNature، والأهم، أن العديد من الباحثين الصينيين المرموقين، ممن هاجروا سابقًا إلى الولاياتالمتحدة وقضوا سنوات أو عقودًا في مختبراتها، بدأوا في العودة إلى وطنهم، سيما ما عجز إدارة ترامب استقطاب علماء النخبة إليها. ورغم كل ما يحدث، يختم الكاتب بتفاؤل نسبي: "مهما كانت التطورات المقبلة، فالبشرية اليوم تمتلك من الأدوات ما يمكنها من حفظ المعرفة، حتى في وجه صعود الحضارات وانهيارها.