حتى الآن لا يعرف أحد سر تغير موقفه من التدخل فى أفغانستان من الرفض للموافقة كيف ردع جروميكو تركيا عن إغلاق مضيق البوسفور د. نبيل رشوان ظل أندريه جروميكو معروفاً فى كل العالم ولكنه كان مجهولاً داخل الاتحاد السوفيتى، لعب دوراً مهما فى قرارات مصيرية مثل التدخل فى أفغانستان وتولى جورباتشوف السلطة بعد وفاة قنسطنطين تشيرنينكو، السكرتير العام للحزب الشيوعى السوفيتى عام 1985، وما أدى إليه من تداعيات انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتى. كان معروفاً فى الأوساط الدبلوماسية فى الخارج بلقب «مستر لا»، هذا اللقب لم يكن ينطبق عليه فعلاً، فهو دبلوماسى عبقرى، وكان دائماً ما يبحث عن الحلول التوافقية، وإلا لما كان هناك تفريغ لشحنات التوتر مع الناتو والغرب فى أوج الحرب الباردة، وتوقيع عدد من الاتفاقيات المهمة المتعلقة بخفض التسلح. كان جروميكو أيضاً صاحب تصرفات غير تقليدية أثناء عمله، ففى السبعينيات من القرن الماضى، أرادت تركيا إغلاق مضيق البوسفور فى وجه السفن الحربية السوفيتية للعبور إلى البحر المتوسط، ما كان من جروميكو وأثناء حديث غير رسمى مع بعض الصحفيين الأمريكيين إلا أن قال لهم فى وسط الكلام، إنه لكى يعبر أسطول البحر الأسود السوفيتى إلى البحر المتوسط يكفى إطلاق دفعتين من الصواريخ، وسنجد محل البوسفور مضيقين آخرين، لكن للأسف اسطنبول لن تكون موجودة حينها. بعد هذه الكلمات لم تتحدث تركيا عن موضوع إغلاق البوسفور فى وجه السفن الحربية السوفيتية أبداً. تأثير النشأة ولد أندريه جروميكو عام 1909 فى أسرة فلاحية متوسطة الحال فى قرية رتارى جروميكو التابعة لمنطقة موجيلوف حالياً جزء من بيلاروسيا. فى جميع الاستمارات التى كان يتقدم فيها للعمل أو الدراسة كان يكتب فى خانة القومية أنه روسى. ووالده لم يكن فلاحاً بالمعنى الحرفى فقد كان يعمل طوال الصيف فى تعويم أشجار الغابات فى النهر لنقلها وكان أندريه فى الثالثة عشرة من عمره يساعد والده فى هذا العمل الصعب. حصل أندريه جروميكو على شهادة عليا فى الاقتصاد قبل موعد انتهاء الدراسة بأن كان يتقدم للامتحانات مبكراً، بعد ذلك تقدم للحصول على الدكتوراه التى انتهى منها فى موسكو، كانت رسالته للدكتوراه عن الاقتصاد الأمريكى، وأثناء كتابة الرسالة كان جروميكو مضطراً لتعلم اللغة الإنجليزية، ولم يكن حتى يحلم بأن تعلمه للإنجليزية سيغير مسار حياته. أول مكان عمل به جروميكو كان معهد الاقتصاد التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية، حيث عمل كباحث أول بالمعهد، وبدا له أن الأمور استقرت عند هذا وسيبقى يتدرج فى المجال العلمى حتى يصل لمنصب السكرتير العلمى لأحد فروع أكاديمية العلوم. تغيير مسار لكن فجأة يتغير مسار حياته رأساً على عقب. فى نهاية الثلاثينيات كانت البلاد تعانى من نقص حاد فى الكوادر المؤهلة والمتخصصة، وهنا يظهر أندريه جروميكو حاصل على الدكتوراه ويجيد لغة أجنبية (الإنجليزية)، وبفضل جذوره البروليتارية وإجادته للغة الإنجليزية أثار اهتمام وزارة الخارجية حينها كانت تسمى (القيادة الشعبية للشئون الخارجية). بعد ذلك أصبح الطريق مفتوحاً أمام أندريه جروميكو لكى يتبوأ أعلى المناصب، فلم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره وكان يرأس قسم دول أمريكا فى الخارجية، لم يمر كثيراً على هذا المنصب حتى استدعى كمتخصص حديث فى السياسة الأمريكية، فقد كان جروميكو يعرف جيداً الحالة السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة، بالإضافة بالطبع لمعرفته باللغة الإنجليزية. مقابلة ستالين من كان يراقب تفوق جروميكو، دعاه لمقابلة ستالين، وعندما التقى الزعيم به سأله ماذا تقرأ فرد جروميكو "كتاب بالإنجليزية عن المشاكل الزراعية فى الولاياتالمتحدة". نظر ستالين بانتباه إلى الدبلوماسى الشاب وفكر، ثم قال "جروميكو لقب لا بأس به لدبلوماسى". ترك الشاب جروميكو انطباعا جيدا لدى الزعيم ستالين، فأصدر أمراً بتعيينه مستشاراً فى السفارة السوفيتية بالولاياتالمتحدة. ثم بدأ الصعود الصاروخى لجروميكو، فى نهاية عام 1939 بدأت الحرب العالمية الثانية، حممها تهادت ببطء لتشمل دولا جديدة كل يوم، وهنا كان على جروميكو أن يدافع عن مصالح الاتحاد السوفيتى مناوراً بين الدول المتصارعة. سفير فى أمريكا فى عام 1943 يصبح جروميكو سفيراً للاتحاد السوفيتى لدى الولاياتالمتحدةوكوبا معاً، كان هذه فترة مهمة فى حياته العملية، حينها حدث الهجوم النازى على الاتحاد السوفيتى وتباطأ الحلفاء فى فتح جبهة جديدة مع ألمانيا النازية لتخفيف الضغط عن الاتحاد السوفيتى، حينها كان ضمن المهام الرئيسية لجروميكو إقناع الولاياتالمتحدة ببدء العمليات العسكرية فى غرب أوروبا بأسرع ما يمكن. كان لجروميكو علاقات طيبة بالرئيس الأمريكى روزفلت والمحيطين به، كما لعب دوراً مهماً فى الإعداد لمؤتمرى ياطا وبوتسدام اللذين كان لهما الفضل فى وضع نظام عالمى لما بعد الحرب، ولعب دوراً مباشراً فى إعداد ميثاق الأممالمتحدة، ونيابة عن الاتحاد السوفيتى وقع على الميثاق وشغل منصب أول مندوب للدولة السوفيتية فى المنظمة الدولية، وحينها جمع بين منصبى ممثل الاتحاد السوفيتى فى الأممالمتحدة ونائب وزير الخارجية كان حينها فياتشسلاف مولوتوف. خطأ جروميكو وفق من عاصر جروميكو أنه كان لديه القدرة على إجراء المفاوضات لفترة طويلة مع زملائه من الدول الأخرى دون اللجوء لتسجيل ذلك ولا حتى كتابة خطب أو كلمات أو أى إعداد مسبق. وتنبأ له الجميع بأنه سيشغل منصب وزير الخارجية السوفيتية، لكن ورغم حرص جروميكو الشديد، ارتكب فى عام 1952 خطأ لم يغفره له ستالين، عندما وقع اتفاقية مع الصين تتعلق بعلاقة العملة الروسية الروبل بالعملة الصينية اليوان، لم يغفر له ستالين هذه الخطوة، فتمت إقالة جروميكو من منصبه وتم تعيينه سفيراً فى إنجلترا. عاد مولوتوف وزيراً للخارجية السوفيتية من جديد عام 1953، واستدعى جروميكو من إنجلترا وعينه نائب أول له، وهكذا بعد أربع سنوات من الحادثة الشهيرة يصبح جروميكو وزيراً للخارجية، تميزت فترة وجود جروميكو فى وزارة الخارجية بأنها فترة تفريغ شحنات التوتر بين الاتحاد السوفيتى والولاياتالمتحدة والغرب عموماً، فقد تحولت العلاقات وسارت فى القنوات الموضوعية وأصبحت علاقات طبيعية، دور جروميكو كان ينحصر فى عدم السماح بأى حال بالصدام العسكرى المباشر فى أزمات مثل أزمة الكاريبى أو النزاع فى فيتنام أو أنجولا أو الشرق الأوسط. ولعل أهم إنجاز لجروميكو أنه أثناء شغله منصب وزير الخارجية، كان الاتحاد السوفيتى يعيش أقوى وضع له على الساحة الدولية فى تاريخه، لدرجة أن دبلوماسيي العالم كانوا يعتبرون جروميكو الدبلوماسى رقم واحد فى العالم. فقد كانت مصلحة بلاده تقف فى الدرجة الأولى أمامه فى كل مكان، وكرس حياته لخدمة الوطن، وكان يلقب "السيد لا" ومن يعرفه جيدا يؤكد أنه لم يكن متحجراً وإنما كان يسعى من الرفض للحصول على شروط أفضل لبلاده. ومما لا شك فيه أن تثبيت المحصلة النهائية للحرب العالمية الثانية بما فى ذلك الاعتراف بحدود ما بعد الحرب وخفض التوتر فى العلاقات الدولية والاستقرار والأمن كل هذا كان بفضل الدبلوماسية السوفيتية وعلى رأسها أندريه جروميكو، والتى أصبحت أداة مؤثرة ومهنية للسياسة الخارجية. أحداث دراماتيكية فى نفس الوقت ورغم تفوق جروميكو فى إدارة السياسة الخارجية السوفيتية، لا يمكن المرور دون لفت الأنظار لأحداث دراماتيكية حدثت فى عهد وزير الخارجية جروميكو، منها التدخل السوفيتى فى تشيكوسلوفاكيا وأفغانستان. فى حالة تشيكوسلوفاكيا يمكن القول أن هذا الأمر لم يكن من اختصاص وزارة الخارجية حينها بل كان من صلاحيات قسم العلاقات الخارجية فى اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى، فهى التى كانت تخطط للعلاقات مع دول المعسكر الإشتراكى وكان يرأس القسم السيد بوريس بونوماريوف، جروميكو كان موجوداً أثناء مناقشة مسألة التدخل فى تشيكوسلوفاكيا، لكنه لم يكن المبادر به. الثورة فى أفغانستان لكن دوره فى التدخل السوفيتى فى أفغانستان كان مثيراً للجدل. ففى عام 1979 كان جروميكو عضواً فى المكتب السياسى، فى مارس من نفس العام أعرب هو وأندروبوف عن عدم رغبتهما فى دعم الثورة فى أفغانستان بقوات سوفيتية، لكن بعد سبعة أشهر غيرا رأييهما واتفقا مع وجهة النظر التى كانت سائدة فى ذلك الوقت حول التدخل (كان جورباتشوف فى ذلك الوقت مرشحاً لعضوية المكتب السياسى وكان يستجم فى شبه جزيرة القرم وهناك التقى شيفاردنادزة "وزير الخارجية فيما بعد" واشتكى جورباتشوف من أنهم لم يأخذوا رأيه فى مسألة التدخل فى أفغانستان) حتى الآن لا يعرف أحد سر تغير موقف جروميكو وأندروبوف من النقيض للنقيض، لكن جورباتشوف فى كتابه "وحيداً مع نفسى" والذى صدر عن دار الهلال بعنوان "جورباتشوف يتذكر" أشار إلى أنه عندما سأل جروميكو عن سبب موافقته قال "تريدنا نخسر الأموال كل يوم كما حدث مع كوبا"، وربما الخطأ الأكبر فى حق الاتحاد السوفيتى كان أنه رجح كفة جورباتشوف لتولى قيادة الاتحاد السوفيتى، على الرغم من أنه لم يكن هناك منافسون واضحون، بالإضافة إلى كبر سن معظم من كانوا فى المكتب السياسى فى ذلك الوقت، ولم تكن الخيارات المتاحة كثيرة. لكن الخطيئة الكبرى التى وقع فيها جروميكو، فقد كان جروميكو وأندروبوف (رئيس الكى جى بى حينها) وأوستينوف (وزير الدفاع) ضمن ما يعرف "بالترويكا الكبيرة". هذه المجموعة هى التى كانت تخطط للسياسة الخارجية للاتحاد السوفيتى. ففى عام 1985 كان جروميكو يشغل إلى جانب وزارة الخارجية منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، وكان يستطيع بسهولة أن يصبح قائداً للدولة، لكنه رفض، متعللا لزملائه بكبر السن واعتلال الصحة، هل كان الأمر كذلك لا أحد يدرى. قائد الدولة فيما بعد قال جروميكو، عندما شاهد شيفاردنادزة وزير الخارجية يفرط فى الوجود السوفيتى فى ألمانيا وأوروبا الشرقية بصفة عامة، ربما كان من الضرورى أن أشغل منصب السكرتير العام للحزب حيث السلطة المطلقة، صرح بذلك بعد عدة سنوات لبعض المقربين منه، وأشار إلى أنه كان يجب أن يبقى فى منصبه لعدة سنوات حتى يعد خليفة له يستحق منصب وزير خارجية الاتحاد السوفيتى. استطاع جروميكو أن يشعر بدور قائد الدولة عندما شغل منصب رئيس مجلس السوفيت الأعلى، وهو يعادل منصب رئيس الدولة، تولى هذا المنصب من يوليو 1985 وحتى سبتمبر 1988، وللحقيقة كان تولى جروميكو لهذا المنصب باقتراح من جورباتشوف حتى يأتى رؤساء الدول لحضور جنازته بصفته رئيس دولة وهذا كان يعتبر نوعا من التكريم. لم يبق جروميكو على بالمعاش سوى فترة قصيرة أقل من عامين وتوفى فى 2 يوليو 1989. قبل وفاته بفترة قصيرة أعطى نجله أناتولى النصيحة التى كان يتبعها هو طوال حياته وهى "لا تيأس أبداً، حتى فى أعوامي هذه أنا لا أشعر بأنني عجوز. الناس يموتون بجسدهم لكن أرواحهم لا تموت أبداً. يجب أن تؤمن بهذا!".