لا تنطلى على المراقبين تحولات الموقف الإسرائيلي الأمريكى إزاء القضية الغزاوية؛ فما بين عشية وضحاها اكتشفت تل أبيب ومعها واشنطن مجاعة الغزاويين، وأدركتا فجأة حتمية دخول المساعدات الإنسانية، ودون سابق إنذار جنحتا إلى «إنهاء العمل فى القطاع»، حسب تعبير الرئيس الأمريكي، ما حمل مؤشرات على تقاربات بين ترامب ونتنياهو، خاصة عند قراءتها من زاوية زيارة مبعوث واشنطن ستيف ويتكوف إلى إسرائيل. تؤكد المؤشرات أن عبارة «إنهاء العمل فى قطاع غزة» ليست شعارًا سياسيًا، وإنما ضرورة استراتيجية للولايات المتحدة وإسرائيل معًا، وتهدف فى المقام الأول إلى انتزاع حماس من المشهد السياسى والعسكرى فى القطاع، وتفادى ردود الأفعال الإقليمية والدولية عبر التظاهر بتأمين الغذاء للغزاويين، وخلق بيئة يمكن من خلالها إعادة بناء القطاع «دون المساس بأمن إسرائيل»، وفق صحيفة «معاريف». اقرأ أيضًا | بروكسل.. الاتحاد الأوروبى يراجع مواقفه من إسرائيل القناعة التى وصل إليها الجانبان الإسرائيلى والأمريكى تؤشر إلى أن رحى الحرب فى غزة لا تدور وسط فراغ إقليمي، لا سيما وأنها اندلعت فى لحظة فارقة وبالغة التعقيد، دفعت إلى تحولات استراتيجية، وتكاليف، وتداعيات جيوسياسية على إسرائيل والولاياتالمتحدة، وكامل دول المنطقة. لذلك، امتطت واشنطن وتل أبيب مسارًا صفريًا، يفضى إلى استبعاد حماس، وحرمانها من أى جزء ولو ضئيلا من القوة السياسية أو العسكرية فى القطاع. إذا كان ذلك هو المعلن فى تقاربات تل أبيب وواشنطن، فلا يمكن استبعاد التفافات غير معلنة، تحذر من سيولة توزيع ووصول المساعدات الإنسانية لسكان القطاع، وتعتبر «التفريط» فى رقابة واشنطن وتل أبيب على توزيع المساعدات ثغرة لتمديد بقاء حماس؛ لكنها تجاهلت فى المقابل محاولات خلق أزمة إنسانية فى رفح الفلسطينية، أو بالأحرى تصدير كارثة إنسانية على الحدود المصرية ولعل ذلك هو ما دعا سفير الولاياتالمتحدة السابق لدى تل أبيب المحامى ديفيد فريدمان إلى التنظير، وإعادة وضع عين إسرائيل والولاياتالمتحدة على سيناء، ولكن بأسلوب جديد. فى لقاء مع صحيفة «معاريف»، رأى فريدمان، وهو أكثر تطرفًا من ائتلاف نتنياهو، أن حسم انتصار إسرائيل على حماس، يكمن فى «إقامة منطقة إنسانية آمنة داخل سيناء». تماديًا فى الخداع، وعبر محاولة جديدة لتمرير مشروع تهجير الغزاويين إلى شبه الجزيرة المصرية، قال فريدمان: «لا يعنى ذلك أن هناك نية لدى إسرائيل أو الولاياتالمتحدة لنقل سكان القطاع إلى مصر، بل إقامة منطقة آمنة مؤقتة، لا تزيد مساحتها على بضعة كيلومترات مربعة، حتى تستطيع الأممالمتحدة، والمنظمات الإغاثية (التى تشرف عليها إسرائيل) تقديم الغذاء، والمياه، والرعاية الطبية، وخدمات أخرى للفلسطينيين». ما لم يعلنه فريدمان، مهندس قرار ضم الجولان إلى إسرائيل خلال ولاية ترامب الأولى، هو تعارض تسويق فكرة عودة الغزاويين إلى القطاع مع تسريبات تضمنت خطاب بنيامين نتنياهو خلال إحدى جلسات لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست بتاريخ 10 مايو الماضي، وقال فيها نصًا: «إسرائيل تهدم المزيد والمزيد من المنازل، ولم يعد أمام سكان القطاع مكان يعودون إليه، وهو ما يفرض خيارًا صفريًا: رغبة الغزاويين فى الهجرة خارج القطاع. مشكلتنا الرئيسية الآن تكمن فى الدول المستقبِلة لهم». وأضاف: «ما نفعله حاليًا أمر مهم: لتنفيذ عملية ترحيل، لا يكفى تهجير الناس؛ لا بدّ من اقتلاع جذورهم، ومنعهم من العودة (كما حدث بعد عام 1948). لا يزال مشروع الترحيل الكبير مطروحًا ولن ينتهي، وتشارك فيه أجنحة مختلفة من اليمين الإسرائيلي، داخل الحكومة وخارجها». وهو يتحدث عن «أجنحة اليمين من خارج حكومته»، ربما قصد نتنياهو المحامى الأمريكى ديفيد فريدمان، لا سيما وأن وزير الشئون الاستراتيجية الإسرائيلى رون ديرمر شجع مشروع فريدمان، وزاد عليه مقترحًا (اعتبره ضمانة) أوصى فيه مجلس الأمن بإصدار قرار لإعادة الغزاويين «إن أرادوا» من سيناء إلى القطاع بعد نهاية الحرب، زاعمًا أن ذلك «يجعل عملية الإجلاء إلى سيناء قانونية وأخلاقية، وليست ترحيلًا قسريًا»! ولا تقتصر على ذلك تقاربات تل أبيب وواشنطن حيال غزة، وإنما ترسخ لاقتتال وتناحر داخلى عبر تمكين جماعات مسلحة عسكريًا ولوجستيًا، يمكنها خلق فوضى فى القطاع، تحول دون قدرة السلطة الفلسطينية أو غيرها من مؤسسات رام الله على إدارة القطاع؛ فضلًا عن انتزاع إمكانية عودة الغزاويين حال تمرير سيناريو ديفيد فريدمان. ولم يكن مستغربًا فى ظل ذلك أن تفتح صحيفة «وول ستريت جورنال» المحسوبة على التيار المحافظ فى الولاياتالمتحدة، صفحاتها أمام قائد ما يُعرف ب«القوات الشعبية»، وهى جماعة غزاوية مسلحة، تحرضها تل أبيب على بسط النفوذ الأمنى فى القطاع. وفى مقال تحت عنوان «أهل غزة سئموا حماس»، توعد قائد الجماعة حكومة حماس، وقال إنها «لم تعد مقبولة جماهيريًا، وحان وقت رحيلها بعيدًا عن المشهد».