بذريعة إدخال مساعدات إنسانية لقطاع غزة، غرست إسرائيل بتنسيق مع الCIA مخالب شركات أمنية لتسريع وتيرة طرد سكان القطاع قسرًا. وأكدت وثائق نشرتها صحيفتا «نيويورك تايمز»، و«واشنطن بوست»، أن «مؤسسة غزة الإنسانية» (GHF)، التى أوكلت لها حكومة نتنياهو حصريًا توزيع المساعدات داخل القطاع، تدار من خلال مرتزقة وضباط متقاعدين فى وكالة الاستخبارات المركزية، بالإضافة إلى قدامى محاربين فى جيوش غربية. اقر أ أيضًا | مطالبات فى سويسرا للتحقيق بشأن توافق عمل «مؤسسة غزة الإنسانية» مع القانون الدولى وتؤكد المعلومات أن تل أبيب وواشنطن سجلتا المؤسسة بالعاصمة السويسرية جنيف، فى محاولة لطمس هدف غير معلن، يتعارض تمامًا وتجاوب إسرائيل المفاجئ مع إغاثة سكان القطاع، لا سيما بعد موقف وزير المالية، عضو الائتلاف المتطرف بيتسلئيل سيموتريتش، وتأكيده قبل بدء عمليات توزيع الغذاء العشوائية أنه «لن يدخل قطاع غزة حبة قمح واحدة». نيران مقامرة إسرائيل والولاياتالمتحدة بالأزمة الإنسانية فى القطاع، ظلت كامنة تحت الرماد حتى تلقت سويسرا شكاوى تنزع الحيادية عن (GHF)، وتؤكد اعتزام المؤسسة استغلال توزيع المساعدات فى إجبار سكان القطاع على النزوح من المنازل، وبالتالى دفع مشروع التهجير القسرى إلى الأمام. كما تبيَّن من خلال الوثائق ضلوع شركات أمن أمريكية فى عضوية ال(GHF)، وجاء فى طليعتها شركتا «أوربيز»، و«كونستاليس»، اللتان أصبحتا وجه العملة الآخر لشركة الأمن الأمريكية الخاصة «بلاك ووتر». ربما ينعش اسم «بلاك ووتر» العقل الجمعى العربى والعالمي، خاصة عند العودة إلى عام 2007، حين تورط مرتزقة الشركة فى وقائع اغتيال آلاف الأبرياء العراقيين فى العاصمة بغداد. وهربًا من تحقيقات جرت فى هذا الخصوص عام 2009 مع انتخاب باراك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة، توارت الشركة فى جسد «كونستاليس»، لتصبح الأخيرة نسخة طبق الأصل من «بلاك ووتر». لكن أريك برينس مؤسس «بلاك ووتر»، والمسؤول الأول عن فظائع سجن «أبو غريب» العراقى عام 2004، عاد مجددًا للمنطقة من البوابة الإسرائيلية، ربما لتغطية نقص الموارد البشرية فى جيش الاحتلال، أو لإدارة العدوان على قطاع غزة «من خارج الصندوق»، حسب تعبيره فى حوار لصحيفة «معاريف». ولا يشعر برينس أو حتى أسرته باغتراب فى إسرائيل أو تحت كنف إدارة دونالد ترامب؛ فالرجل البالغ من العمر 55 عامًا، أحد أبرز المشاركين المؤسسين فى شركة الهواتف الإسرائيلية Unplugged، أما شقيقته بيتسى ديفوس، فكانت وزيرة التعليم فى إدارة ترامب السابقة. رغم ذلك، اعترضت «إسرائيل العميقة» على إحدى نظريات برينس؛ فبعد ثلاثة أسابيع من 7 أكتوبر 2023، زار مؤسس «بلاك ووتر» تل أبيب، وعرض فكرة التخلص من حماس عبر إغراق شبكة الأنفاق المتشعبة فى قطاع غزة؛ لكن رفض المقترح عكس مدى رغبة حكومة نتنياهو فى إطالة أمد العدوان، واتخاذ حماس ذريعة لعمليات إخلاء القطاع من قاطنيه؛ وزاد الاعتراض على الطرح تأكيد صاحبه أن «إغراق الأنفاق بالمياه كفيل بتحييد مناطق بأكملها دون إسقاط قنبلة واحدة». وبينما لم تتجاوب إسرائيل مع المقترح، اعتاد صاحبه على التردد لزيارتها، ولم تنكر عليه فى كل مرة طرحًا جديدًا لتفعيل مخطط التهجير. وبالتزامن مع ضغوطات إقليمية ودولية، حذرت من كارثة إنسانية فى قطاع غزة، ونادت بحتمية دخول المساعدات للقطاع المأزوم، التقف برينس الكرة، واقترح تأسيس منظمة دولية غير هادفة للربح (GHF)، لتتولى مسؤولية توزيع الأغذية على الغزاويين. وبعد تسجيل المنظمة فى سويسرا، لإخفاء وقوف إسرائيل والولاياتالمتحدة ورائها، استعان العرَّاب الأمريكى ورفاقه فى تل أبيب بشركة GDC، المملوكة لرجل الأعمال الأمريكى الإسرائيلى موتى كهانا، وتم تكليفها بالتعاون مع شركة «كونستاليس» (بلاك ووتر سابقًا) لأداء المهمة فى قطاع غزة من خلال المؤسسة الإغاثية الجديدة، والاستعانة فى هذا الخصوص بقدامى المحاربين فى وحدات قتالية من الجيوش الأمريكية والبريطانية والفرنسية، مع التشديد على تفادى وجود أى يهودى بين كوادر تلك الوحدات، حسب اعتراف الكاتب الإسرائيلى أساف جلعاد فى صحيفة «جلوبز» العبرية. وفيما تنفس برينس الصعداء إثر استملاح إحدى نظرياته الأمنية، اقتنع بشرط إسرائيل انتزاع اسم موتى كهانا من العملية، لا سيما عند تبرير الخطوة بتفادى الصدام مع إدارة ترامب؛ فما فات برينس حينئذ هو أن ترامب وإدارته لن تنسى ولاء كهانا الكامل للحزب الديمقراطي، ودعمه غير المحدود خلال الانتخابات لمرشحة الرئاسة كاملا هاريس، ما حدا بالمجندين إلى إبعاده تمامًا عن المشهد مع الاحتفاظ بعضوية شركته فى (GHF). تسريبات التحقيقات السويسرية أفادت بذوبان «بلاك ووتر» فى هوية جديدة، أطلق عليها فى البداية «أكاديميك»، وسرعان ما اندمجت مع شركات أخرى تعمل مع الجيش الأمريكي، وكوَّنت فى النهاية مجموعة «كونستاليس»، التى يعمل بها 20 ألف مستخدم فى الولاياتالمتحدة و39 دولة أخرى حول العالم؛ كما ينتمى 70% من كوادرها إلى قدامى المحاربين فى الوحدات العسكرية الأمريكية. ولا تقف استعانة إسرائيل بمرتزقة أجانب عند التغطية على محاولات تهجير سكان قطاع غزة، وإنما تخطط إسرائيل لضلوعها المباشر فيما يُعرف ب«اليوم التالي»، إذ يتدارس ائتلاف نتنياهو عبر دوائر ضيقة للغاية تكليف شركات أمن خاصة بإدارة القطاع بعد انتهاء العدوان؛ وتعتلى شركة «أوربيز» الأمريكية قائمة هذه الشركات. ووفقًا لاعتراف صحيفة «جلوبز»، ناقش نتنياهو ومجلسه العسكرى فى منتدى محدود جدًا خلال الاسبوع الماضى خطة الشركة، لا سيما بعد الاطلاع على ملفها الخاص، وابتعادها عن الأضواء؛ فالشركة تتخذ من ولاية كارولينا الجنوبية مقرًا رئيسًا لها، ويعمل بها 450 كادرًا منذ 20 عامًا فى خدمة وزارة الدفاع الأمريكية. وما يثير دهشة استعانة إسرائيل بتلك الشركة دون غيرها، هو خبرتها فى الخدمات اللوجستية والمشتريات والصيانة والهندسة ودعم الكمبيوتر داخل القواعد والمرافق الدفاعية الأمريكية. وتتفاقم الدهشة عند الاطلاع على محتوى موقع الشركة الإلكتروني، إذ يجمع طاقمها بين المعرفة النظرية، والذكاء الاستراتيجي، والخبرة العملية، بالإضافة إلى رؤى مكتسبة من خبرات استخباراتية، وعمليات عسكرية، وغيرها ذات الصلة بالأمن القومي. مؤسس «أوربيز» ضابط كبير سابق فى البحرية الأمريكية يدعى جاى موسمان؛ أما الميزانية اللازمة لإدارة القطاع، فقدرها رجل الأعمال الأمريكى الإسرائيلى موتى كهانا ب200 مليون دولار كل ستة أشهر، أما المقدم (احتياط) يوحنان تزوريف، الباحث فى معهد دراسات الأمن القومى الإسرائيلي، والمستشار السابق للشؤون العربية فى الإدارة المدنية بقطاع غزة، فقدر الميزانية ذاتها بمليارات الشواكل سنويًا. وانزلق المحققون السويسريون فى متاهات بالغة التعقيد عند المقارنة بين مهام تأمين المساعدات الإنسانية فى قطاع غزة، ومقومات مؤسسات الأمن الأمريكية الخاصة، التى كان مقررًا دمجها فى العمل مع منظمة (GHF)؛ ومن بينها شركة «سيف ريتش سوليوشنز» (SRS)، التى أعلنت فى موقعها الإلكترونى عن حاجتها لعاملين فى «مهمة إنسانية بمنطقة الشرق الأوسط»، وأثارت الشركة ريبة رواد الموقع حين اشترطت فى الإعلان ذاته «قدرة المتقدمين على تنفيذ مهام ذات طبيعة عسكرية واستخباراتية متميزة». وفى ردها على الاستفسارات، قالت الشركة: «نحن بحاجة إلى أفراد أمن ذوى مهارات عالية، وخبرة قتالية لدعم العمليات الأمنية متعددة الجنسيات. تشمل هذه المهمة تأمين البنية التحتية الحيوية، والمساعدة فى الجهود الإنسانية، وضمان الاستقرار فى بيئة ديناميكية». ونظرًا للفوضى التى طوَّقت توزيع المساعدات الإنسانية فى قطاع غزة، قررت سويسرا تجميد منظمة (GHF) حتى قبل توزيع الغذاء، لكن الولاياتالمتحدة لم تكترث بموقف جنيف، وأوكلت إلى كيان أمريكى أداء المهمة المريبة، وفقًا لتصريحات المتحدث باسم المنظمة لصحيفة ال«جارديان» البريطانية.