لطالما احتلت «الأم» بطولتها الدرامية في الأعمال الاجتماعية، باعتبارها رمز التضحية والحنان، بينما ظل «الأب» لسنوات طويلة إما غائبا أو داعما من بعيد، نادرا ما نسجت حوله خيوط الحكاية, لكن في السنوات الأخيرة، بدأت الدراما المصرية تلتفت إلى زاوية مختلفة، أكثر صدقا وإنسانية, الأب الذي يجد نفسه فجأة في مواجهة الحياة بمفرده، يربي أبناءه، ويخوض تحديات التربية والعاطفة والمسؤولية دون شريك. هذا التحول لم يكن مجرد حبكة درامية، بل محاكاة لحالات واقعية نراها في المجتمع، وتكمن أهميته في إعادة الاعتبار لصوت "السنجل فاذر" المغيب، وفتح بابا للحديث عن دوره، مشاعره، صراعاته، وربما هشاشته. نجاح مسلسل "كتالوج" في تقديم نموذج الأب المربي بإنسانية وبراعة، يفتح الباب أمام صناع الدراما للتفكير في قضايا أسرية أخرى، تطرح من زوايا مختلفة، بعيدا عن النمطية. لم يكن "يوسف" محمد فراج, مستعدا لليوم الذي سيغيره إلى الأبد, في لحظة صمت مفاجئة، غابت "أمينة" ريهام عبد الغفور، شريكة العمر والأم، تاركة وراءها طفلين وبيتا مليئا بالذكريات والأسئلة, وجد نفسه فجأة على الجبهة وحده، لا يملك رفاهية الحزن ولا وقتا كافيا للانهيار, عليه أن يصبح أبا وأما في آن واحد. هكذا بدأت حكاية "يوسف" في مسلسل "كتالوج"، لتكشف عن جانب إنساني نادرا ما منحته الدراما المصرية حقه في الضوء, الأب الوحيد أو "السنجل فاذر"، الذي لا يهرب من المسؤولية، بل يحتضنها رغم كل التحديات النفسية والاجتماعية والتربوية. "كتالوج" ليس مجرد قصة حزن أو فقد، بل نافذة أعادت فتح الباب أمام تسليط الضوء على هذه التجربة الصامتة، التي تعيشها بعض الأسر المصرية، وأثبت أن للأب حكايات لا تقل دفئا وتعقيدا عن حكايات الأمهات، فقط تحتاج من يرويها. المسلسل من إخراج وليد الحلفاوي وتأليف أيمن وتار. رغم مرور عقود، ظل "بابا عبده" رمزا خالدا للأب المتفاني، الذي كرس حياته لأبنائه الأربعة بعد وفاة زوجته، في واحدة من أكثر الأعمال تأثيرا في ذاكرة الدراما المصرية, مسلسل "أبنائي الأعزاء.. شكرا" تأليف عصام الجمبلاطي، إخراج محمد فاضل، قدم صورة الأب الذي تجاوز الستين وأُحيل للمعاش، ليكتشف فجأة المسافة العاطفية التي فصلته عن أبنائه الثلاثة – الطبيب، والمهندس، والصحفي – وابنته التي لا تزال تواصل تعليمها وعلى مدار الحلقات، يعيد الأب والأبناء اكتشاف بعضهم البعض، في لحظات صادقة تمزج بين الحنين والحب غير المشروط. وفي خط مواز، عاد هذا النموذج الإنساني للظهور، لكن من زاوية مختلفة، في مسلسل "إمبراطورية ميم"، حين يفجع الأب "مختار" خالد النبوي, بوفاة زوجته، فيتحمل بمفرده مسؤولية تربية أبنائه الستة, هنا يتشابك العبء العاطفي مع صراع الاختيارات الشخصية, بين احتياجات الأب وتطلعات الرجل الذي يجد نفسه بين شغف الحب ومتطلبات الأبوة، وسط ضغوط اجتماعية و واقعية قاسية, القصة المأخوذة عن رواية إحسان عبد القدوس، أعاد تقديمها محمد سليمان عبد المالك بإخراج محمد سلامة، لتكون نسخة معاصرة تعبر عن أزمات الأبوة في زمن مختلف. يطرح ذلك تساؤلا مهما, كيف تطورت صورة الأب الأرمل في الدراما المصرية؟, وهل بدأت الأعمال الحديثة تعيد التوازن في تناول هذه القضية؟. "وتر الفقد" يقول الناقد الفني طارق الشناوي: يعتبر مسلسل "كتالوج" واحدا من أكثر الأعمال الدرامية التي لامست وجدان المشاهدين، وأيقظت في قلوبهم مشاعر الافتقاد. فقد نجح المخرج وليد الحلفاوي في العزف ببراعة على وتر الفقد، ذلك الإحساس الذي لا يخلو منه قلب، سواء كنت أبا، أما، أخا، زوجا، أو صديقا... فكل منا ذاق طعمه واكتوى بمرارته. براعة العمل – الذي صاغه الكاتب أيمن وتار – يتجلى في قدرته على الاقتراب من هذا الإحساس العميق بمهارة إنسانية مرهفة، فذكاء النص يكمن في قدرته على الإمساك بخيط المشاعر، والتنقل بسلاسة بين النقيضين, لحظة تختلط فيها الدمعة بالضحكة، ويتجاور فيها الألم مع لمسة دفء, هذه الثنائيات العاطفية كانت محسوبة بدقة، ويحسب للمخرج قدرته على إدارتها بحكمة, فقد تدمع العين وتبتسم الشفاه في مشهد واحد، وهو من علامات الكتابة الصادقة والإخراج الواعي. كذلك، كان اختيار الأبطال موفقا للغاية, ريهام عبد الغفور جسدت الأم الراحلة بحضور مؤثر، ومحمد فراج أبدع في دور الأب الأرمل الذي يصارع الحياة بمفرده من أجل أطفاله, كذلك خالد كمال، سماح أنور، وبيومي فؤاد، جميعهم قدموا أداء راقيا، بل أعاد الحلفاوي اكتشاف سماح أنور وقدمها في أحد أجمل أدوارها، فيما رسم بيومي فؤاد شخصية "القبطان" بعمق وإنسانية، رجل عاش الفقد أيضا فاختار العزلة كملاذ, ويبدو أن لقب "القبطان" لم يكن عبثيا، بل يرمز برقة وحنين إلى الفنان نبيل الحلفاوي، الذي اقترن اسمه بهذا اللقب منذ فيلم الطريق إلى إيلات، حتى أصبح وداعه على السوشيال ميديا يحمل توقيع "القبطان" كتقدير شعبي لحضوره، وحتى في توجيهه للأطفال، أظهر المخرج قدرة فائقة على استخراج أداء ناضج من الثنائي علي البيلي وريتال عبد العزيز، وهو ما يؤكد امتلاكه لفن قيادة الممثل، صغيرا كان أو كبيرا. ويضيف الشناوي: تناول شخصية الأب الأرمل في الدراما المصرية ظل لسنوات طويلة مهمشا أو محصورا في أدوار باهتة تفتقر للعمق الإنساني، إلى أن جاءت أعمال مثل "كتالوج" لتعيد تقديم هذه الشخصية بشكل أكثر واقعية ودفئا, هذا التحول يعكس نضجا في كتابة الدراما، وتحررها من القوالب النمطية، خاصة في تقديم الرجل كعنصر مسؤول عن التربية والمشاعر معا, فمثل هذه الأعمال تسهم في تغيير الثقافة المجتمعية تجاه دور الأب، وتفتح النقاش حول أهمية وجوده العاطفي والتربوي، لا فقط المادي، داخل الأسرة. "كتالوج" ليس مجرد مسلسل، بل تجربة دافئة، إنسانية، تركت بصمة صادقة في ذاكرة وضمير الجمهور". "سنوات من التهميش" كما تؤكد أيضا الناقدة الفنية ماجدة موريس أن تناول الدراما المصرية لشخصية الأب الأرمل ظل نادرا لسنوات طويلة، مقارنة بالنموذج الأكثر حضورا وانتشارا وهو الأم الأرملة التي تتولى مسؤولية تربية الأبناء بعد فقدان الزوج، وهو ما انعكس بوضوح على خريطة الدراما الاجتماعية، بحكم واقعية الحكايات التي يسردها المجتمع, وتقول: "هذا الغياب لم يكن فقط لأسباب درامية، بل هو أيضا انعكاس لثقافة مجتمعية سائدة، ترى أن الرجل لا يفترض به أن يتحمل مسؤوليات الأبوة الكاملة بعد فقدان الزوجة، بل عليه الزواج سريعا ممن تعتني بالأبناء وتتولى المهام اليومية, وتعتبر موريس أن هذه الرؤية الضيقة هي جزء من ثقافة ذكورية منغلقة يجب التحرر منها، لأن تربية الأبناء بكافة أشكالها مسؤولية إنسانية مشتركة بين الطرفين. وتضيف: هذا ليس مبررا لتجاهل هذا النموذج دراميا، فالفقد لا يفرق بين رجل وامرأة، والدراما التي تصنف تحت عنوان "الإنسانيات" يجب أن تطرح كافة الاحتمالات الأسرية، ومنها أن يتولى الأب تربية أبنائه وحده بعد رحيل الأم، مثلما تتولى الأم المهمة ذاتها حين يغيب الأب. وتشير إلى أن الأعمال التي تناولت هذا النموذج بحساسية وعمق، مثل مسلسل "كتالوج"، تعد بداية حقيقية نحو إنصاف صورة الأب الأرمل، وكسر الصورة النمطية التي اختزلت دوره في جني المال فقط. هذا الطرح – برأيها – لا يضيف فقط على المستوى الإنساني، بل يساهم في إعادة بناء المفاهيم داخل المجتمع، عبر تقديم صورة للأب المتفاعل، المتعلم، الراعي لأبنائه، بكل تفاصيلهم النفسية والعاطفية. وتضرب موريس مثالا بأعمال خالدة كان لها تأثير مماثل، مثل مسلسل "أبنائي الأعزاء.. شكرا"، وتقول: قدم فيه الفنان عبد المنعم مدبولي شخصية الأب المربي بكثير من الحنان والحكمة، ليصبح العمل أيقونة في ذاكرة الدراما الأسرية, ومن الأعمال الحديثة مسلسل "إمبراطورية ميم"، حيث قدم خالد النبوي دور الأب الأرمل بشكل عصري، يجمع بين الحزم والحب، ويظهر وفاءه لزوجته الراحلة، وحسن تعامله مع أبنائه، مما خلق حالة إنسانية لافتة أثرت في جمهور واسع، وطرحت نموذجا يحتذى به. وتختتم موريس بأن قيمة الدراما تكمن في قدرتها على التوجيه غير المباشر، عبر حكايات تمس الواقع، وتفتح أبواب التفكير، ومن هنا تأتي أهمية مثل هذه الأعمال، التي تطرح قضايا حقيقية قد تمر بها أسر عديدة، وتقدم نماذج يمكن أن تترك أثرا ممتدا في سلوك الأفراد والمجتمع ككل. " رسالة تربوية" من جهته، أكد الناقد أحمد سعد الدين أن مسلسل "كتالوج" لم يكن مجرد دراما اجتماعية، بل رسالة تربوية ومجتمعية شديدة الواقعية، ناقش كيف يمكن للأب أن يتحمل مسؤولية الأبناء بعد وفاة الأم، ويتعلم أساليب الاحتواء والتواصل النفسي مع كل مرحلة عمرية, ويقول: "هذا الطرح لم يكن شائعا في الدراما، لكنه موجود في المجتمع, وما فعله المسلسل هو أنه سلط الضوء عليه بواقعية جعلت الناس تشعر أن ما يحدث على الشاشة قد يحدث بينهم, فمن أهم أهداف الدراما – بل جوهرها – هو أن تعكس الواقع الاجتماعي وتلامس حياة الناس اليومية, ومن هذا المنطلق، نجح مسلسل "كتالوج" في تحقيق تأثير تربوي وعاطفي عميق لدى الجمهور، عبر طرحه لقضية تمس شريحة واسعة من الأسر المصرية، وهي فقدان الأب لشريكة حياته وتحمله مسؤولية تربية الأبناء بمفرده, وقوة العمل تكمن في دخوله إلى عمق الأسرة المصرية، وتسليطه الضوء على أب يجد نفسه فجأة أمام مهام لم يعتدها – من تربية ورعاية واحتواء – بعد أن كانت الزوجة تتكفل بها, وهنا يطرح المسلسل سؤالا محوريا: هل تنهار الأسرة إذا غابت الأم؟, وهى قضية تتكرر في الواقع، فالتحدي الأكبر في هذه الحالة يكمن في قدرة الأب على أداء دور مزدوج – الأب والأم – في وقت واحد، وكيف يمكنه أن يحتوي أبناءه في مراحل عمرية مختلفة، بتغيراتها النفسية والفسيولوجية, هذه العناصر شكلت عوامل جذب قوية للجمهور، وجعلت العمل يحظى بنسبة متابعة مرتفعة رغم قصر حلقاته، لأنه انطلق من داخل نسيج المجتمع، ولم يكن دراما منعزلة عن الواقع, فهذا النوع من الأعمال يعتبر تحولا ثقافيا فنيا حقيقيا، وليس مجرد دراما ترفيهية، بل أعمال تسهم في تغيير الفكر المجتمعي، وتقدم جرعة توعوية عميقة حول العلاقات الأسرية. وطرح المسلسل لقضية "الوالد المربي" لم يكن فقط دراميا، بل حمل رسالة مجتمعية مهمة، وهي أن غياب أحد الوالدين لا يعني بالضرورة انهيار الأسرة، بل يمكن إعادة بناء المنظومة الأسرية من جديد إذا وجد الاحتواء والتفاهم. وأشاد سعد الدين بالطريقة التي تناول بها المخرج وليد الحلفاوي تعقيدات نفسية وسلوكية تمر بها الأسرة، معتبرا أنها من أهم نقاط القوة التي جعلت العمل مؤثرا على أكثر من مستوى. ويضيف قائلا: الدراما المصرية في السنوات الأخيرة بدأت تشهد تطورا ملحوظا في تقديم صورة الأب الأرمل، بعد أن ظلت الأم لفترة طويلة هي الشخصية المهيمنة في مثل هذه القوالب، ويفسر ندرة تناول "السنجل فاذر" دراميا، مقارنة بالأم المكافحة، بعدة أسباب؛ من بينها أن المجتمع يميل لتصوير الأم على أنها الطرف الأضعف والأكثر تحملا للصعوبات والتضحيات، بينما ينظر إلى الأب – اجتماعيا – على أنه أكثر قدرة على بدء حياة جديدة من خلال الزواج مجددا، على عكس الأم، التي تواجه قيودا نفسية ومجتمعية تجعل الأمر أكثر تعقيدا بالنسبة لها, ومع ذلك، فإن المسلسل نجح في تغيير هذا التصور النمطي، وطرح الأب كعنصر قادر على الاحتواء، التوجيه، وبناء جسور من الثقة مع أبنائه. ويتابع: رغم أن قضية الأب الذي يتحمل مسؤولية تربية أبنائه بمفرده ليست حديثة على الدراما المصرية، فإن أعمالا مثل "أبنائي الأعزاء... شكرا"، الذي قدم فيه الفنان عبد المنعم مدبولي شخصية الأب الحنون والمكافح، تبقى من أبرز المحطات الدرامية التي تناولت هذه الفكرة بعمق وصدق, ويظل تميز هذا العمل في الطرح الإنساني القريب من الواقع، مما يؤكد أن الرهان الحقيقي لا يكمن في ندرة الفكرة، بل في قدرتها على ملامسة وجدان الناس حين تقدم بروح صادقة ومعالجة درامية ناضجة. اقرأ أيضا: الدراما المصرية بين التنوير والتحديات: نحو صناعة تعكس الوعى وتحترم القيم