فى الوقت الذى تتصاعد فيه أعمدة الدخان من قطاع غزة وسط قصف متواصل ومعاناة إنسانية خانقة تسير المفاوضات الهشة بين إسرائيل وحركة حماس نحو الهاوية، ومع كل جولة دبلوماسية تنهار تتضح ملامح الصورة الأكبر: وهى أنه يبدو أن هناك إرادة حقيقية، لا فى تل أبيب ولا فى واشنطن، لإنهاء الحرب. الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب»، يقف بثبات إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو»، رافضًا أى ضغط دولى يطالب بوقف إطلاق النار أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بحسب ما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية BBC. وقد أعلن صراحة معارضته لمبادرة فرنسا فى الجمعية العامة للأمم المتحدة التى تهدف إلى منح فلسطين عضوية كاملة، موقف يعبر عن انسحاب أمريكى متعمد من أى عملية سياسية ذات مغزى. ووفقًا لشبكة CNN الإخبارية الأمريكية، دعا إسرائيل إلى «إنهاء المهمة»، فى إشارة إلى دعمه لعملية عسكرية أكثر حدة، على الرغم من تصاعد الأزمة الإنسانية فى غزة. ما يثير تساؤلات عن: من لا يريد إنهاء الحروب؟ ومن المستفيد الحقيقى من استمرار الصراعات، سواء فى غزة أو فى أوكرانيا أو الأزمات فى سوريا واليمن والعراق أو غيرها من البؤر الملتهبة التى أصبحت جزءًا من سياسة دائمة يبدو أن لا نهاية لها؟ تدخلات متعددة تأتى هذه التطورات ضمن سياق أوسع من التدخلات الأمريكية - مباشرة أو غير مباشرة - طويلة الأمد ومصالحها الجيوسياسية المعقدة، حيث غالبًا ما يتم تغليب التحالفات الاستراتيجية ومشاريع فرض النفوذ على الخطابات الإنسانية أو الديمقراطية. ووفقًا ل»مركز ويلسون» السياسى الأمريكى، يجسد الصراع فى غزة هذا النمط، إذ تسهم السياسات الأمريكية فى دعم الأهداف الإسرائيلية المتشددة، مع تهميش المبادرات الدبلوماسية التى تسعى لتغيير الوضع القائم. لذا، فإن السياسات الأمريكية فى غزة تأتى بنتائج عكسية، ولن تؤدى إلا إلى إطالة أمد الصراع فى الشرق الأوسط. ليست هذه المرة الأولى التى تكون فيها الولاياتالمتحدة طرفًا مباشرًا أو غير مباشر فى صراعات ممتدة. فمنذ الحرب العالمية الثانية، تدخلت واشنطن عسكريًا فى أكثر من 30 بلدًا، وتحولت الحروب إلى سياسة دائمة لا تنتهى إلا لتبدأ من جديد. لكن من يحرك هذه الدوامة؟ ولماذا تستمر؟ وفقًا لعدد من التحقيقات الاستقصائية والدراسات الأكاديمية، يمكن فهم هذه الديناميكية من خلال ما يُعرف ب«مجتمع الحرب المؤيد فى أمريكا» (American Pro-War Community)، وهو تحالف معقد يجمع بين شركات تصنيع الأسلحة، مقاولى الدفاع، مراكز الأبحاث، جماعات الضغط، السياسيين، والإعلام. شبكة مصالح مترابطة تستفيد من الحرب، بل وتعمل على إنتاج أسباب استمرارها. المجمع الصناعى العسكرى فى قلب هذه المنظومة تقف شركات السلاح العملاقة مثل «لوكهيد مارتن»، «رايثيون»، «بوينج»، و»نورثروب جرومان»، التى تجنى مئات المليارات من الدولارات سنويًا عبر تصنيع وبيع الأسلحة للجيش الأمريكى ولحلفاء واشنطن حول العالم، بما فى ذلك إسرائيل. فى 2024، بلغت ميزانية الدفاع الأمريكية حوالى 841 مليار دولار، وفقًا لموقع وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون». وقد أقرّ الكونجرس هذه الميزانية، والتى تضمنت زيادة بحوالى 28 مليار دولار مقارنة ب2023، وشملت تمويلات لبرامج المراقبة الإلكترونية والاستخبارات، وزيادة رواتب العسكريين بنسبة 5% تقريبًا، رقم يفوق إنفاق معظم دول العالم مجتمعة. وكلما طالت الحروب، تضاعفت العقود. أما فى غزة، فكل صاروخ يُطلق، وكل نظام دفاع يُفعّل، يعنى أرباحًا جديدة تُحوّل إلى وول ستريت. الباب الدوّار البنتاجون، بوصفه المستهلك الأول لهذه الميزانية، ليس مجرد ضحية لضغوط الشركات؛ بل هو طرف فاعل فى تأبيد هذه المنظومة. عبر ما يُعرف ب«الباب الدوار»، ينتقل الجنرالات المتقاعدون إلى مجالس إدارة شركات الدفاع، ويعود بعضهم لاحقًا إلى مواقع صنع القرار فى الدولة. هذا التداخل يجعل الفصل بين المصالح العامة والخاصة مستحيلًا، ويجعل السلام غير مرغوب فيه اقتصاديًا. أما مراكز الأبحاث، فتلعب دورًا خطيرًا فى تغليف هذه المصالح بخطاب ناعم حول «الأمن القومى» و«الردع الاستراتيجى». معظم هذه المراكز تتلقى تمويلًا مباشرًا من شركات الدفاع، ما يخلق انحيازًا هيكليًا فى تحليلاتها وتوصياتها، يدفع دائمًا نحو زيادة الإنفاق العسكرى والتوسع فى مناطق الصراع. الكونجرس واللوبيات شركات الدفاع تدفع ملايين الدولارات فى حملات الضغط السياسى لشراء الولاء فى الكونجرس. هذه الشركات تموّل الحملات الانتخابية وتضغط من أجل تمرير صفقات السلاح، وهو ما يجعل الساسة أسرى لمصالح دافعى الفواتير، لا لمصالح الشعب أو للسلام. وهكذا، تصبح الحرب سياسة محمية قانونيًا ومنتجة اقتصاديًا، وفقًا لموقع Fair Observer. وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى نادرًا ما تطرح تساؤلات جذرية حول من يدفع كلفة الحرب ولماذا تستمر. بل على العكس، كثيرًا ما تعيد إنتاج خطاب الدولة حول «الشر» و«الأعداء»، ممهدة الرأى العام لتقبل التدخلات العسكرية باعتبارها ضرورات لا خيارات. وفى حرب غزة الحالية، قلّما تسأل وسائل الإعلام عن عدد القتلى الفلسطينيين، أو عن مسئولية الشركات الأمريكية فى تزويد إسرائيل بالأسلحة. بل يتم التركيز على «حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها»، دون النظر فى واقع الحصار والانهيار الإنسانى الذى يعيشه أكثر من مليونى إنسان فى القطاع. اقتصاد الحرب إلى جانب شركات السلاح، تستفيد قطاعات مثل الأمن الخاص، التكنولوجيا، البناء، اللوجستيات، وحتى الجامعات الكبرى من عقود البنتاجون. كل هذه المؤسسات أصبحت جزءًا من منظومة يصعب الفكاك منها. وفى بعض الولايات، تُعتبر القواعد العسكرية هى المشغّل الأول، ما يجعل الساسة المحليين يقاتلون لإبقاء الحرب حيّة حفاظًا على الوظائف. بينما تتراكم الأرباح، يدفع المدنيون ثمنًا باهظًا: قتلى، جرحى، لاجئون، بُنى مدمرة، ومدن بلا مستقبل. أما فى الداخل الأمريكى، فإن تريليونات الدولارات التى تُنفق على الحروب، تُقتطع من ميزانيات التعليم، والصحة، والبنية التحتية، لتُضخ فى ماكينة لا تعرف سوى الدم والنار. إن دعم ترامب لنتنياهو فى غزة، ليس مجرد قرار شخصى أو أيديولوجى، بل هو امتداد لشبكة مصالح مترابطة، تغذى الصراعات وتمنع نهايتها. فى هذه المنظومة، لا يوجد مكان لحلول دائمة أو سلام شامل؛ لأن الحرب صارت هدفًا بذاتها، لا وسيلة. الحرب لا تنتهى لأن هناك من يستفيد من استمرارها. وفى غزة، كما فى بقاع أخرى من العالم، فإن كل قنبلة تُلقى، وكل تفاوض يُجهض، يخدم شبكة مصالح اقتصادية وسياسية وإعلامية عابرة للحدود. ولذلك، فإن السؤال الحقيقى لم يعد «متى تنتهى الحروب؟» بل: «هل ستسمح واشنطن أن تنتهى الحرب؟» اقرأ أيضا: ترامب: نرغب بوصول المساعدات إلى غزة دون أن تمسّها حماس