في ذكرى ثورة 23 يوليو 1952 التى غيّرت وجه مصر وأطاحت بنظام الملكية لتبدأ عصرًا جديدًا من العدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية، نعيد نشر تقريرٍ صحفى تاريخى من أرشيف مجلة «آخرساعة» يعود إلى عام 1953، هذا التقرير ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو شهادة حية على زمنٍ كان الفقراء فيه محرومين من أبسط حقوقهم، بينما القصور الملكية تزداد بذخًا وفخامة. ■ الفلاح البسيط يجري مكالمة هاتفية من غرفة النوم في القصر تأخذكم المجلة فى رحلة رمزية مع فلاح بسيط وزوجته وابنهما الرضيع، الذين دخلوا لأول مرة فى حياتهم قصر الملك فاروق بعد عزله، ليجلس الفلاح على كرسى العرش الذهبي، وتنبهر الزوجة بكل ما تراه حولها من ثراءٍ مُفرطٍ كان حكرًا على حفنة من النخبة، بينما كان الشعب يعانى الجوع والمرض. هذه اللحظة التاريخية تجسد روح الثورة التى أرادت أن تقول: «هذا البيت ملكٌ لكم.. وهذا الوطن حقٌ لجميع أبنائه».. وفيما يلي نص التقرير: ◄ اسمك إيه؟ محمد سليم عبدالله. ◄ وبتشتغل إيه؟ فلاح فى الأرض. ◄ وإيه رأيك لو تتفرج على قصر عابدين؟ إيه.. سراية الملك الفاسد! ◄ أيوه.. لكن ده مش معقول. ◄ لا.. معقول. يا سلام يا أولاد.. بقى أنا أروح سراية العمدة الملك، وأركب «أسانسير».. دى تبقى حاجة جنان خالص. ■ حمام القصر الملكي خمس نجوم ◄ ومراتك وياك كمان. ولم يتكلم سليم فى هذه المرة.. وإنما نظر فى ذهول. ومع ذلك فإن محمد سليم عبدالله الرجل الفلاح الذى يشتغل بعشرة قروش فى اليوم، لن ينسى هذه الساعات التى قضاها من عمره.. لن ينسى أنه لم يصدق فى بادئ الأمر حديث زيارته إلى قصر العمدة الكبير.. ولن ينسى أنه أخذ من يده، وأن زوجته سارت خلفه، ودخلا قصر الملك.. ولن ينسى ما شاهده داخل القصر الذى عاش فيه فاروق. وأكثر من ذلك، فإنه سيظل يتذكر وهو الرجل الفلاح الفقير، أنه جلس على كرسى العرش وعن يمينه جلست زوجته «أم سليم» تحمل ابنها الرضيع «محمد». ◄ شبشب على السلم عندما كان سليم يصعد سلم القصر نظر إلى زوجته غاضبًا، كأنه تذكر شيئًا وسألها: ■ محمد سليم وزوجته في حالة ذهول من الفازة العملاقة ◄ أم سليم.. انتِ ناوية تطلعى ب«البلغة» اللى فى رجلك؟ وانحنت أم سليم تخلع «الشبشب» الريفى الذى كانت تضعه فى قدمها، بينما انحنى محمد سليم على حذائه يفك رباطه ويخلعه. وهكذا سار الموكب الريفى فى قصر المدينة.. سليم حاملًا حذاءه الكبير، وأم سليم حاملة ابنها وشبشبها الريفي، ونظرات الدهشة والحيرة مرتسمة على وجهيهما. ودخل الموكب فى بادئ الأمر إلى حديقة القصر الداخلية، ونظر سليم إلى النبات الأخضر الجميل ثم قال: «يخرب بيته.. هو كان بيزرع بطاطا فى القصر؟». وأشارت أم سليم إلى فسقية فى منتصف الحديقة فقال لها سليم: «روحى اسقى الواد من العسل اللى بيدلدأ من الزبازيب دي. وأومأت أم سليم برأسها قائلة: «أيوه صحيح ده عسل». ◄ اقرأ أيضًا | النواب والشيوخ يهنئان الرئيس السيسي بذكرى ثورة 23 يوليو ◄ صالة المسرح وسار الموكب الريفى حتى وصل إلى صالة المسرح، وجلس الزوجان والصفوف الأمامية، وضحك سليم وهو يشرح لزوجته قائلًا: هنا كان بييجى محمود شكوكو، وعلى الكسار، وحسين الفحل. ◄ البلاليص الملوكي «يا سلام يا بوى على البلاص ده» قالها سليم، وهو يفحص فى دهشة إناءً كبيرًا من الخزف وسط الصالة أهداه حسنى الزعيم إلى فاروق عقب وصوله إلى سوريا بعد زيارته لمصر.. ثم نظر إلينا سليم وقال: «أهى دى البلاليص الملوكي». ◄ قاعة العرش وخطوة خطوة، ثم يفتح الباب ويدخل منه سليم وزوجته إلى قاعة العرش، وعندما وضع سليم قدميه داخل القاعة نظر إلينا متسائلًا: إيه دي.. أوضة الجلوس؟ وخطوة خطوة، سار سليم حتى وصل إلى كرسى العرش وجلس عليه، وعن يمينه جلست زوجته.. وخيم السكون.. ففوق هذا الكرسى الذى جلس عليه الفلاح الفقير محمد سليم عبدالله كان يجلس الملك المخلوع. ◄ صورة تذكارية وطلب سليم بعد ذلك أن تأخذ له صورة تذكارية تقف فيها زوجته عن يساره، بينما يجلس هو على هذا الكرسى المسمى كرسي العرش، دلالة على قوته كرجل، وسيطرته على زوجته.. وفى زهو وفخر أمسك سليم بيد زوجته وهو يقول لها فى عنف: «أقفى جنب العمدة يا بت». وخرج سليم وزوجته، من قاعة العرش متجهين نحو جناح الملك، وعندما دخلا الجناح قالت الزوجة: «يا صلاة النبي.. يا صلاة النبي»، ونظر إليها سليم غاضبًا: «انت بتصلى على النبى علشان إيه.. ده الملك ده كان راجل دون، ما يستحقش أى صلاة»، ومالت عليه زوجته وقالت: «أنا باجول صلاة النبى على الحاجات الحلوة دي». وأمسك سليم بغطاء سرير الملك وهو يقول: شوفى يا أم سليم القماش ده ينفع لبنتك.. تيجى تشترى لها منه لما تتجوز، وأجابت أم سليم: «مليح.. بس ده يساوى له جنيه المتر». ولمح سليم التليفون الأخضر الموضوع على يمين السرير، والخاص بالملك.. فأمسك به يريد أن يتكلم ورفع السماعة، ووضعها على أذنه: ◄ سليم: آلو. آلو.. ◄ مين؟ عايز إيه؟ ◄ أنا عايز جناب العمدة. عمدة إيه؟ ◄ عمدة جزيرة ميت عقبة. وقهقه سليم، وهو يضع السماعة.. واستطرد يقول: «أيوه كنت عايز العمدة علشان أحكى له على اللى أنا فيه.. كنت عايز أقول له أنا دلوقت قاعد على سرير الملك». ◄ «جناية» في الحمام ودخل الموكب الريفى إلى الحمام الملكي، ونظرت أم سليم إلى حوض السباحة الصغير وسط الحمام وقالت: «شوف يا سليم الجناية (القناية) البيضة اللي كان بيستحمى فيها المخسوف على عمره»، وقال سليم: «انت عارفة هى بيضة علشان إيه». وهزت أم سليم رأسها علامة على النفى وانطلق زوجها يقول: «علشان معمولة من البلاط الزلازنة». وفجأة صرخ الطفل، وفي هدوء اتجهت الأم من تلقاء نفسها إلى دورة المياه الخاصة بفاروق، وانحنت تساعد ولدها. ◄ مخدع الملكة ومرة أخرى دخل الموكب الريفى إلى مخدع الملكة، وجلس سليم فوق السرير الناعم وهو يقول: «شايفة يا أم سليم.. أملة عمرنا ما شفناها» وأومأت أم سليم برأسها قائلة: «دى حاجات لما يكون الواحد مريض لازم تشفيه». ثم نهض سليم من فوق السرير، ونهضت زوجته وسار الموكب الريفى مرة أخرى نحو القاعة البلجيكية ودارت عينا الرجل دهشة وهو يسأل: «يا أخويا هو كان عنده كام أوضة جلوس». واستطردت زوجته تقول: «وكلهم من الدهب.. طيب يسيح أوضة ويخلى البلد عندنا تآكل». ■ ■ ■ وبعد.. لقد أمضى محمد سليم عبدالله وزوجته ثلاث ساعات فى القصر الكبير.. ثلاث ساعات شاهدًا فيها كل شيء، لم يكن أحدهما يعرف إلى أين ينظر ولا أى شيء أجمل من الآخر.. كان كل شيء أمامها جميلًا غريبًا، عجيبًا، غير مألوف. لقد جاء سليم إلى قصر عابدين، وكل أمنيته أن يركب «السلانسير» ولن ينسى سليم هذه الدقائق التي قضاها في هذا «السلانسير»، وأكثر من ذلك فإنه لن ينسى أبدًا أنه جلس على كرسي العرش، وعن يمينه جلست زوجته أم سليم تحمل ابنها الرضيع «محمد».