«ليست الحرب فقط ما يُشنّ بالمدافع، بل ما يُروّج له بالكاميرات.. فالرصاصة تقتل جسدًا، أما الصورة فتنزع العقل من جذوره» ربما لم تعد المسافة بين الخيال والواقع سوى خطوة درامية واحدة، لكنى أبدًا لم أكن أتصوّر أن الدراما قد تسبق الواقع، بل تتواطأ معه، وتُمهّد له الطريق ليتسلّل إلى أعماقنا دون استئذان، وأن تنتقل القصة من خيال الشاشة إلى جحيم الحقيقة، فلم تعد الحروب فى هذا العالم تُخاض بالرصاص فقط، بل بالكاميرات والسرد الدرامى، وتُكتب الوقائع على أوراق سيناريو، وتُحرر الجرائم بتقنيات المونتاج، وفى زمنٍ باتت فيه الصورة سلاحًا، والحكاية مخططًا استراتيجيًا، لم يعد مفاجئًا أن نرى المسلسلات تسبق القنابل، والخيال يسبق الجريمة! وليس غريبًا أن يتحول مسلسل تليفزيونى إلى مرآة تعكس مستقبلًا قريبًا أو تمهّد له عمدًا، وتمنحه شرعية الظهور. هذا ما فعله مسلسل الجاسوسية الأمريكى الإسرائيلى «طهران» الذى أنتج قبل 5 سنوات، ويتناول المواجهة السرية بين إسرائيل وإيران، من خلال مهمة سرية لعميلة الموساد «تمار»، حيث تنتقل فيه الجاسوسية من الفكرة الأدبية إلى التخطيط الحربى، ومن مشهد فوق شاشة مضاءة إلى مشهد فى شوارع العاصمة الإيرانية، تغطيه دماء، وتُحاصره التساؤلات.. كنت أتابع بذهول تفاصيل الهجوم الإسرائيلى الذى استهدف مواقع حساسة داخل العمق الإيرانى، ومنشآت عسكرية تابعة لوزارة الدفاع، فإذا بمشاهد مسلسل «طهران» الذى تابعته قبل سنوات تقفز أمامى، كما لو كانت بروفة لما يحدث أمام عينى، كل مشهد، كل خدعة، كل اختراق رأيته من قبل! فهل كان المسلسل يتنبأ؟ أم كان يمهد نفسيًا وسياسيًا لتقبل تلك الأحداث لدى الرأى العام العالمى؟ وهل الفن هنا يستبق الواقع؟ أم أنه يُستخدم لتبريره قبل وقوعه؟ حبكة مشوّقة ومتماسكة فى المسلسل تتسلل عميلة الموساد إلى قلب طهران لتعطّل شبكة الدفاع الجوى، وتفتح المجال أمام ضربة إسرائيلية، حبكة مشوّقة ومتماسكة، لكنّها لم تبق حبيسة الشاشة، فالخيال تقدّم بخطوة، ولحقت به الحقيقة، صادمة، دامية، مباغتة، سبق الخيالُ الحدث ومهّد له نفسيًا، ثم عاد ليتجاوز الدراما، فكان الواقع أكثر فتكًا، دراما جاسوسية إسرائيلية بدت وكأنها خيال جامح، قبل أن تتحول إلى وقائع أمنية تهزّ إيران من الداخل! اغتيالات، اختراقات، وعجز دفاعى، كلها بدأت على الشاشة، قبل أن نراها فى نشرات الأخبار، لا أتحدث هنا عن تشابه أو صدفة، بل عن استنساخ كامل، عن «نبوءة درامية» تكشف حجم ما يُدار فى الظل، وتُعرّى ذلك التحالف الجهنمى بين السلاح والكاميرا، بين الجيوش والاستوديوهات، وتثبت أن المسلسل كان مشروعًا استخباراتيًا بصيغة درامية، يسعى لتطبيع فكرة الاغتيال، بل «بروفة» شبه حرفية لعمليات أمنية حقيقية، حدثت لاحقًا فى ذات المكان، وكأن الجاسوسة التى تسللت إلى طهران فى المسلسل، أُعيدت إلى الواقع باسم آخر، ولكن بذات المهمة والبرود الدموى، فالاختراقات الأمنية التى شهدتها طهران، والاغتيالات الدقيقة التى طالت قادة فى الحرس الثورى وعلماء نوويين، بدت كأنها مسرحية مسبقة لأحداث نُسجت أولًا على الورق، ثم أُعيد تنفيذها على الأرض. دراما تبحث عن الشرعية لم يكن الأمر مجرد تشابه، بل إعادة تمثيل دقيقة لمخطط تم تنفيذه على مرأى ومسمع من العالم، «طهران» لم يكن مسلسلًا عاديًا، بل كان -بامتياز- نموذجًا لما يسمى «التهيئة الذهنية للحرب»، حيث تتم صناعة سردية مشحونة بالخوف، والترويج لفكرة العدو الخارق، والمخابرات التى لا تُقهر، والاختراق الذى يبدو قدرًا محتومًا، فيتحوّل كل من يعارض إسرائيل إلى خطر وجودى على العالم! دراما تُروّج للحرب قبل أن تبدأ، وتعدّ الرأى العام لتقبّل الدم كقَدَر محتوم! أداة قذرة لغزو الأفكار قبل الأوطان، وتدجين العقول، وغرس صورة ذهنية لعدوّ لا يُشبه الواقع، تمهيدًا لتبرير ضربه، سحقه، شيطنته، بل واغتياله إن لزم الأمر! أدركت وأنا أراقب تقاطع المشاهد بين ما يُعرض على الشاشة، وما يحدث على الأرض، أن الهدف لم يكن التشويق أو حتى التوثيق، بل اختراق الوعى ذاته، مسلسل «طهران» لم يُكتب ليحكى قصة، إنما ليتسلل داخل عقولنا، يعيد تشكيل القناعات، ويغرس الشكوك، ويمرر رسائل ملوّثة ناعمة لا تُواجه بالرفض، لأنها تتدفق إلينا تحت غطاء الفن، دراما لا تبحث عن الجوائز بل عن الشرعية، لا تلاحق المشاهد بقدر ما تُطارد عقله، لتزرع داخله قناعة أن العدو الموصوف لا يستحق الحياة، وأن ضربه ضرورة لحماية القيم الغربية، بل والحضارة نفسها، عملية نفسية محكمة تستهدف المشاهد بذكاء، تنفذ إلى وجدانه، تغوى عاطفته، وتجرّه دون أن يدرى إلى تبنّى سردية العدو، أو على الأقل، تفهّم دوافعه، وتبرير وحشيته. تشكيل خرائط الإدراك إنها ليست مجرد دراما، بل سلاح ناعم ينسلُّ بخبث، ليُعيد تشكيل خرائط الإدراك داخل عقل المشاهد دون أن يدرى، مسلسل يعيد صياغة الأحداث بطريقة تهدف إلى اختراق وعى المشاهد، والتأثير على قناعاته، فن تم تجنيده لا ليحاكى الواقع بل ليمهّد له، يغسل العقول تمهيدًا لشرعنة الفعل الوحشى، وتحويل القاتل إلى بطل، والمعتدى إلى منقذ، والمقاومة إلى تهديد ينبغى إزالته، فكرة مسمومة تمهد لتقبل الغزو، وحين تصل الدراما إلى هذه المرحلة من التماهى مع أجندة استخباراتية، تصبح أكثر فتكًا من القصف، لأنها تفتح بوابات العقل من الداخل، وتحوّل الفن إلى أداة استعمار خفيّ، لا يُواجه بالسلاح، بل بالوعى. فى الوقت الذى ينشغل فيه العرب بإنتاج مسلسلات رومانسية وكوميدية، ينتج الإسرائيليون فنًا وظيفيًا يخلط الرسالة بالحبكة، والاستخبارات بالإنسانيات، فليس من قبيل المصادفة أن يُقدَّم «الموساد» فى مسلسل «طهران» بوصفه عقلًا خارقًا، وأداة تحرّك المشهد الدولى من خلف الستار، تتسلل وتخترق وتنفذ دون أن تترك أثرًا، حملة دعائية متقنة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلى، تعيد رسم صورة «الموساد» فى الوعى العالمى، لا يظهر الموساد فى المسلسل كجهاز يعمل وفق أخطاء البشر، بل مثل كائن فوق بشرى يمتلك زمام كل الأمور، هذه الصورة المروّجة بعناية عبر أدوات الفن الغربى، تُعيد إنتاج «أسطورة الموساد» التى تأسست منذ عقود فى الأدبيات الغربية، لكنها تعود بثوب جديد، ثوب التكنولوجيا، والتجسس السيبرانى، والاختراق الهادئ، حيث لا دماء على الأرض، بل تدمير كامل فى البنية المعلوماتية للعدو. شراكة الكاميرا والبندقية إن الأمر لم يعد يقتصر على دعم سياسى وعسكرى أمريكى لإسرائيل، بل تجاوز ذلك إلى شراكة فكرية وثقافية، شراكة فى الكاميرا والبندقية، فى الكلمة والطلقة، فى الحبكة والضربة الجوية، ومنصات مثل «أبل تى فى»، «نتفليكس»، و»أمازون برايم» تصل إلى مئات الملايين تُقدَّم الرواية الإسرائيلية بمظهر إنسانى جذّاب ومشوق، لكى يتسلل المحتوى إلى العقل واللاوعى، وتأثير هذا يتجلى فى تغيّر نظرة المتلقى للموساد، وقبول فكرة «العمليات الوقائية» و»الاغتيالات الدقيقة»، وبناء تصوّر سلبى تجاه إيران، والعرب، والفلسطينيين! الخطير أن المتلقى العربى قد يُصاب -دون وعى- بحالة من الانهزام النفسى أمام هذه الصورة المتكررة، بينما يُغذى المتلقى الغربى -عن قصد- بفكرة «العبقرية الإسرائيلية» و»حقها المشروع» فى الدفاع والهجوم، وبذلك يتحقق الهدف النهائى، كسب الشرعية المسبقة لأى جريمة مستقبلية، ما دامت تصدر عن «الضحية الذكية». صراع الهوية والانتماء فى مسلسل «طهران» البطلة ليست مجرد عميلة موساد تؤدى مهمة إليكترونية، بل رمز لصراع الهوية والانتماء، وُلدت فى إيران، وترعرعت فى إسرائيل، وعادت إلى طهران بتكليف استخباراتى، لكنها لا تواجه فقط النظام الإيرانى، بل تواجه ذاتها المنقسمة بين ماضيها وحاضرها، بين الجذور والانتماء السياسى، بين الإنسانية والمهمة العسكرية، إنها صورة مكثفة لصراع أوسع: هل يمكن اختراق دولة عبر أبنائها، حتى لو اختلفوا معها؟ وهل تتحول الهوية إلى أداة فى يد الاستخبارات؟ سؤال أجاب عليه «على دائى» أسطورة إيران المعروف بمعارضته للنظام، حين قال: «هل يُعقل أن يُحرق وطنى؟ ولا أشعر بلهيب داخلى؟ أتمنى الموت على أن أكون خائنًا، فليحيا الوطن» حقًا خيانة الوطن أقذر أنواع الخيانة وأحقرها، مهما كانت المبررات أو الأسباب. إننا أمام مشروع أيديولوجى يتواطأ فيه الفن مع الأمن، والشاشة مع السلاح، والخيال مع الغزو، فى منظومة تسعى لقولبة الوعى العالمى، بما يخدم رواية واحدة: أن إسرائيل دائمًا على حق، ومن يقف ضدها إرهابى، حتى لو كان شعبًا كاملًا أو دولة بأكملها، وفى النهاية يبقى السؤال: هل تتحوّل الدراما إلى أداة تخدير للضمير العالمى، ليقبل قسوة الموساد فى قلب العواصم العربية والإسلامية، ويعتاد فكرة القتل باسم الأمن القومى؟!