توقفت رشقات الصواريخ وغارات المسيّرات بين إسرائيل وإيران، وخفت ضجيج أول حرب "هجينة" حقيقية شهدها الإقليم، بعدما امتزجت النيران التقليدية بالهجمات السيبرانية والعمليات التكنولوجية المعقدة ، ورافقتها اغتيالات نوعية، واختراقات رقمية أصابت مراكز قيادة ومؤسسات بالشلل المؤقت أو التعتيم الكامل. ما رأيناه هذه المرة لم يكن مجرد تبادل نيران عابر بين خصمين إقليميين، بل كان عرضًا حيًا ومكثفًا لحرب الجيل الخامس، وربما بعضًا من ملامح الجيل السادس. لم تُطلق الصواريخ وحدها، بل سبقتها برمجيات ذكية، وهجمات رقمية، وتحكم عن بعد، وعقول رقمية ترسم بنك الأهداف قبل أن تطلق القذائف. اللافت فى المشهد كله... أن ما كنا نراه ضربًا من الخيال فى المسلسلات الإسرائيلية مثل فوضى وطهران، أصبح مادة يومية فى نشرات الأخبار. والخيال الدرامى تحوّل واقعًا باردًا وعنيفًا. لكن الأخطر من الحرب ذاتها هو «الافتتان بالعدو». هذا الانبهار التكنولوجى الممزوج بالإعجاب غير الواعى بإمكانات إسرائيل فى مجالات الأمن السيبراني، والعمليات الخاصة، وتطويع التكنولوجيا فى إدارة الحرب والاستخبارات، صار خطرًا ناعمًا يتسلل إلى وعى الأجيال العربية الشابة، خصوصًا مع الترويج الذكى له عبر المنصات الرقمية والدراما العالمية. غير أن الواقع ليس مأساويًا كما يبدو. مصر، ولحسن التقدير، انتبهت مبكرًا لهذا التحوّل فى طبيعة الصراع، وبدأت فعليًا فى تأسيس قاعدة صلبة لمستقبل مختلف. فالجامعات المصرية الحكومية والخاصة والأهلية فتحت خلال السنوات الأخيرة عشرات البرامج الدراسية الحديثة التى تعلّم الأجيال الجديدة علوم المستقبل: الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، علوم البيانات، برمجة النظم، وتأمين المعلومات. هذه ليست مجرد «تخصصات جامعية»، بل هى نواة قوة مستقبلية، وقاعدة لما يمكن تسميته «الردع الرقمي»، أو النسخة المصرية من حرب العقول. مئات من شباب مصر تخرجوا أو أوشكوا على التخرج وهم يحملون شهادات فى علوم لم تكن تُدرّس قبل سنوات. أجيال تعلّمت بلغات الكود والمنطق والذكاء الصناعي، وأصبحت جاهزة للاندماج فى عالم شديد التعقيد، حيث لم تعد المعركة مجرد طلقات رصاص، بل خوارزميات تتقاتل فى صمت. لكن هنا تظهر المشكلة الحقيقية: هل سوق العمل فى مصر مستعد فعلًا لاستيعاب هؤلاء؟ هل تواكب خطط الدولة حجم الاستثمار فى التعليم الحديث بفرص عمل حقيقية ترتبط بحلم قومي، لا بمجرد وظيفة مكتبية؟ إن التحدى الآن لا يكمن فقط فى تخريج دفعات من المؤهلين، بل فى توظيفهم فى مشاريع وطنية ذات بُعد استراتيجي، تستثمر ما تعلموه وتمنحهم الشعور بأنهم جنود حقيقيون فى معركة وجود لا تقل أهمية عن حروب الحدود والسلاح. مصر التى انتصرت فى 30 يونيو على أول نماذج "حروب الجيل الرابع"، وأسقطت مشروع التفكيك من الداخل، عليها أن تستعد جيدًا لحروب الجيلين الخامس والسادس، وهى حروب لا تُدار بالبنادق، بل بالبيانات، ولا تُحسم بالجيوش، بل بالعقول. علينا أن ننتبه للانبهار، ونتجاوزه بالبناء. أن نحترم خطر الدراما حين تتحول إلى وعى مزيف، وأن نبنى فى المقابل دراما من نوع آخر: دراما حقيقية عنوانها الاستثمار فى العقول المصرية. نحن أمام لحظة فاصلة، تتطلب خيالًا وطنيًا موازيا لما نراه من خيال عسكرى تقنى فى عيون الخصوم.