فى الوقت الذى لا تزال فيه رائحة الأنقاض تملأ سماء غزة، وتحت الرماد تتقلب جثث الأطفال فى صمت، تُرفع فى قلب تل أبيب لافتات لامعة تحمل عبارة: «تحالف إبراهيم: حان وقت شرق أوسط جديد» لافتات ليست دعائية فقط، بل عقائدية تعلن أن اللحظة الدامية التى تعيشها المنطقة، ليست محطة مأساوية، بل فرصة تاريخية لإعادة هندسة الجغرافيا والديموغرافيا والشرعية السياسية بشرط واحد: أن تُمحى فلسطين. ما يجرى فى غزة الآن، ليس حربًا ولا مجرد قصف، بل مشروع دقيق لإعادة تعريف الكيان الفلسطينى مشروع لا يستهدف فقط الأرض، بل فكرة «الحق» ذاتها وقد بدأ منذ أشهرٍ طويلة، ليس بالصواريخ بل بالخنق البطيء: حرمان جماعى من الغذاء، تقنين القوت، تحويل الإنسان إلى معادلة إنسانية ملتبسة، ثم تقديم «الحل» فى شكل مخيمات إنقاذ أو «مدن إنسانية» تحاكى المعتقلات، وتُدار بتكنولوجيا الأمن لا بقيم العدالة. نحن لا نواجه فقط خطة تهجير ناعمة، بل إعادة اختراع للنفى فالنكبة الأولى كانت بطرد الملايين، والثانية كانت بفرض الحصار وتجفيف كل مقومات الدولة، أما الثالثة، فهى التجويع الممنهج يتلوه اقتراح توطين، لا كخيار، بل كشرط للنجاة مدن إنسانية، إعادة إسكان، كلها تعبيرات تُسوق دوليًا لتغليف التطهير العرقى بكلمات ذات رنين حضاري. وفى قلب هذه الفكرة، يظهر ما هو أخطر: إسرائيل، بشراكة مع دوائر غربية نافذة، بدأت تتعامل مع المأساة بوصفها أداة تفاوض، وسوقًا مفتوحة للمبادرات خطة بوسطن الاستشارية لإعادة توطين الفلسطينيين، مثلًا، ليست ورقة بحثية معزولة، بل مسودة مشروع يُناقش فى الغرف الخلفية والمنطق بسيط: إذا لم نستطع محو الفلسطينيين بالقوة، فلنُعد هندستهم فى أماكن أخرى، حيث يُصبحون أقل خطرًا، وأكثر طواعية. كل هذا يُسوّق تحت شعار «الفرصة» وهناك من يرى أن الحرب صنعت فراغًا يجب ملؤه، وأن الضحايا لا يحتاجون إلى عدالة، بل إلى «حل عملي» هذه الرؤية تمهّد لشرق أوسط لا يحكمه القانون، بل ميزان القوة. شرق بلا فلسطين، أو بفلسطين مُعاد تشكيلها، مُفرغة من رمزيتها، محصورة فى زوايا الجيتوهات، قابلة للتفاوض لا للمطالبة. لكن الأخطر من كل ذلك، هو الصمت الدولى الرسمي، والصحفي، والأخلاقى ولعل منع الصحفيين من دخول غزة ليس فقط لحجب الصور، بل لمنع الرواية البديلة إسرائيل تعرف أن الكاميرا أقوى من الرصاصة حين تُدار بضمير، ولذلك فإن المسموح فقط هو بثّ المأساة عبر وسيطها الحصري: المتحدث العسكرى الإسرائيلي. ولم تكن مصادفة أن تُهاجم مذيعة فى ال CNN لأنها قالت الحقيقة: إن الضربات الأمريكية لم تمس البرنامج النووى الإيراني، وإن التهويل الإعلامى يخفى العجز الاستراتيجي.. ترامب، الذى سارع للمطالبة بطردها، لا يريد إعلامًا يطرح الأسئلة، بل أبواقًا تردد الرواية الجاهزة فإذا كان الكذب الرسمى مُبررًا باسم «المصلحة العليا»، فإن قول الحقيقة بات خيانة وطنية. نحن أمام لحظة يتقاطع فيها النفى الإنسانى مع النفاق السياسى إسرائيل تُعاد تأهيلها كضحية رغم أنها الجلاد، ويُعاد تأطير الجرائم كقرارات اضطرارية وبدلًا من الحديث عن محاسبة نتنياهو، تدور النقاشات حول عفو مشروط يُبقى على النظام السياسى الذى أنتج هذه الكارثة العفو، فى هذه الحالة، ليس تطهيرًا قانونيًا، بل تعويم لجريمة مستمرة. كل هذا لا يعنى سوى شيء واحد: أن من يرفعون اليوم شعار «شرق أوسط جديد»، لا يقصدون شرقًا أكثر عدلًا أو حرية، بل شرقًا يُعاد تشكيله ليخدم أمن إسرائيل وحدها، ولو كان الثمن ملايين البشر المشردين، ومجتمعات مدمرة، وذاكرة تم محوها من الكتب والخرائط والخطابات السياسية. ما لم تكن هناك دولة فلسطينية كاملة السيادة، معترف بها سياسيًا وقانونيًا وجغرافيًا، فإن الحديث عن السلام الإقليمى ليس إلا تسويقًا لمشروع استعمارى جديد ليس المهم كم دولة تُطبّع، بل كم إنسان فلسطينى يُمنح الحق فى الحياة الكريمة. وفى قلب هذا المشهد، تتحوّل فكرة «التحالفات» إلى مظلة للهيمنة المقنّعة ف«تحالف إبراهيم»، الذى يُروَّج له كجسر للسلام، ليس إلا غطاءً لتحالف أمني–اقتصادى تقوده إسرائيل وتديره شركات علاقات عامة بأدوات ناعمة خلف لغة التعاون، يتم ترسيخ معادلة مختلة: إسرائيل تحصد الأمن والشرعية، بينما يُطلب من الضحايا نسيان تاريخهم وقبول شروط لا تضمن حتى البقاء، بل فقط تأجيل الإبادة. أما الحديث عن «إعادة الإعمار» فى غزة، فقد أصبح بابًا خلفيًا لتطبيع الواقع المهزوم منظمات ومؤسسات غربية تتدافع لتقديم تصورات لما بعد الحرب، وكأن المشكلة انتهت بانتهاء القصف يتم تجاهل السؤال الجوهري: هل يعاد إعمار البشر أم فقط الحجارة؟ كيف يمكن ترميم مجتمع تم تشويهه بالحصار والتجويع والترويع، بينما الجانى يُكافأ بتوسيع نفوذه؟ العدالة الحقيقية تبدأ من الاعتراف، لا من تسليع المأساة وتحويلها إلى ورقة فى مكاتب التنسيق الدولي. وحتى فى الأوساط الفكرية الغربية، بدأ بعض المثقفين يعيدون طرح أسئلة مزعجة: هل ما تفعله إسرائيل دفاع عن النفس أم مشروع هيمنة بنيوي؟ هل يمكن الفصل بين ما هو «أمني» وما هو «استعماري»؟ هذه الأسئلة لم تعد تُطرح فى الهوامش، بل فى صلب النقاشات الأكاديمية والإعلامية الكبرى وما كان يُعتبر يومًا «محرّمًا سياسيًا»، بات اليوم ضرورة أخلاقية: أن نقول الحقيقة، حتى لو ارتجف صوتنا. لكنّ الأخطر من كل هذا، أن الخطاب الغربى بات يطالب الفلسطينيين بتبنّى منطق «البراغماتية»، وكأن القبول بالهزيمة فضيلة. يُطلب من شعب تحت الاحتلال أن يُثبت أهليته للحرية، بينما لا يُطلب من المحتل سوى الاستمرار فى القتل ضمن حدود «المقبول دبلوماسيًا» إنها معادلة تعكس لا ازدواجية المعايير فحسب، بل تعكس احتقارًا مضمَرًا لمفهوم الكرامة الوطنية كيف يمكن الحديث عن شرق أوسط جديد بينما جثة فلسطين لا تزال تحت الركام؟! وأى سلام يمكن أن يولد من رحم إنكار كهذا؟!