لا يستطيع المصرى الحقيقى الذى ينتمى بحقٍّ لتراب هذا الوطن أن يخفى أحزانه على ما جرى لسنترال رمسيس، ولا يكبت مخاوفه أو يسْرِج خيول ظنونه جراء الحوادث المرعبة والمتعاقبة التى ألمَّت بمصر مؤخرًا. ووسط كل هذه الأحزان والمخاوف المشروعة، ورغم قسوة مشهد ألسنة اللهب جراء حريق السنترال، ورغم سحب الدخان التى غطت المكان وكتمت الأنفاس، إلا أنها لم تتمكن من حجب مشاهد شهامة وجدعنة المصريين فى مواجهة النيران. مشاهد بطولية لن يراها بالطبع خونة الإخوان وعُواطلية السوشيال ميديا. بينما كانت النار تحرق المبنى العتيق، كانت قلوب المصريين تتحدى الخوف وتُشكِّل سلاسل بشرية حول السنترال. وفى لمح البصر، قاموا بإخلاء شارع رمسيس من السيارات والمارة،ليفسحوا الطريق لسيارات الإطفاء كى تتمكن من إخماد الحريق الذى كان يحرق قلوب المصريين قبل أن يحرق السنترال التاريخى. قلوب أخرى لمئات الشباب لم تهب النار ولا الموت، فسارعوا بتسلق جدران السنترال المشتعلة لإنقاذ العالقين بالداخل ومساعدة رجال الحماية المدنية فى تقليل الخسائر. قدَّم المصريون فى حريق السنترال أروع نماذج الشهامة والتضحية. فبعد أن ازدحمت المستشفيات المحيطة بالسنترال بضحايا الحريق، فتح سكان العقارات المجاورة شققهم لتصبح عيادات صغرى لاستقبال الحالات التى تعانى من الاختناق، بينما فتح آخرون منازلهم لإيواء العائلات التى أُخليت من منازلها الموجودة فى محيط السنترال خوفًا من امتداد النيران إليها. سائقو الأجرة وأصحاب السيارات الخاصة جعلوا سياراتهم بديلًا عن سيارات الإسعاف التى تعذر استدعاؤها بسبب انقطاع الاتصالات. مشهد آخر سيظل محفورًا فى الوجدان المصرى: بسطاء يقدمون الماءَ والأطعمة لرجال الحماية المدنية الذين سطروا ملاحم من البطولات فى إطفاء السنترال المشتعل. وبعيدًا عن محيط النار، كان المصريون يسجلون أروع مشاهد الإيثار. ففى المناطق التى لم تتأثر فيها الاتصالات، فتح أصحاب مقاهى الإنترنت أبوابها لطلاب الثانوية العامة لاستذكار دروسهم بالمجان. وفى الأسواق، ارتضى تجار شرفاء توريد بضائعهم «بالأجل» بعد توقف ماكينات الصرف. مشهد آخر لن يغيب عن الأذهان: قيادات وزارة الثقافة والصديق محمود عرفات مدير معهد الموسيقى العربية وهما يقفون فى بهو المعهد على بعد مرمى حجر من الحريق، خشية أن تمس النار هذه التحفة المعمارية النادرة بسوء. نار السنترال كانت اختبارًا لجوهر المصريين الأصيل. فبالرغم من الابتلاءات وأزمات الغلاء، ستظل مصر «لسه فيها حاجات حلوة كتير».