■ كتب: محمد ناصر فرغل 18 مليون مخالفة مرورية تم تسجيلها رسميًا خلال ستة أشهر فقط، رقم لا يدل على خلل في الرقابة، بقدر ما يكشف عمق الخلل فى السلوك العام، ويفضح غياب الحد الأدنى من الشعور بالمسئولية الجماعية على الطرق.. ملايين اختار أصحابها أن يضعوا أنفسهم فوق القانون، وفوق القواعد، وفوق الناس، بدعوى أنهم «مستعجلون» أو «يعرفون الطريق» أو «لن يُمسِك بهم أحد»، بينما الحقيقة أنهم أصبحوا شركاء مباشرين فى تهديد الحياة اليومية للمجتمع! المشكلة ليست فقط فى حجم الرقم، بل فيما يكشفه من منطق داخلى يقود به البعض سياراتهم، لا أحد على الطريق سواي، ولا أهمية لمَن أمامي أو خلفي، ولا حاجة لأن أتوقف عند لافتة أو أبطئ عند إشارة، طالما أن هدفى الوصول، بأى وسيلة، وبأى مخالفة، وبأي كلفة! هذا المنطق المنفصل عن الواقع هو ما ينتج المخالفات الأخطر، وعلى رأسها السير عكس الاتجاه، الذي سجل أكثر من ألفى مخالفة خلال الفترة ذاتها.لا يمكن تبرير هذا النوع من المخالفات بالزحام أو ضيق الوقت أو غياب البدائل، إنها مسألة وعى منحرف يرى أن الطريق غنيمة، لا مسئولية، وأن القيادة مجرد وسيلة للوصول، لا التزام بمسار يُشارك فيه غيره من البشر. هكذا تظهر الأزمة على حقيقتها؛ ليست أزمة قانون، بل أزمة فهم.. ليست نقصًا فى الحملات الأمنية، بل تآكلًا فى ثقافة الالتزام.. ليست مجرد أرقام تصدر فى بيانات، بل حالة مجتمعية تتعامل مع المخالفة كأمر عابر، ومع الخطأ كأمر طبيعي، ومع الطريق كفضاء خاص لا يُحاسَب فيه أحد. ثمانية عشر مليون مخالفة مرورية، لا تقول فقط إن هناك مَن يخطئ، بل تقول إن هناك مَن يُصر على الخطأ، وإن هناك مَن يرفض أن يفهم أن القيادة ليست فعلًا فرديًا، بل مسئولية جماعية لا تكتمل إلا حين يدرك كل سائق أن مَن حوله بشر، وأن كل لافتة على الطريق ليست مجرد علامة، بل عقد أخلاقى لحماية حياة لم تولد بعد، ولم تخطئ فى شيء. «الأخبار» تناقش الخبراء والمتخصصين حول سُبل إعادة الانضباط على الطريق، ومواجهة ظاهرة الحوادث المفجعة. ◄ اختبار «الثبات الانفعالي» ضروري لاستخراج رخصة القيادة ◄ حالات «عكس الاتجاه» تصل 2 مليون سنويًا والغرامة ليست كافية ◄ لا بديل عن دورات التأهيل النفسي وكشف دوري للمخدرات امتحان السلوك والثبات الانفعالي يجب أن يكون مدخلًا حقيقيًا لفهم مَن يقود الطريق، لا مجرد مرحلة شكلية ضمن إجراءات الحصول على الرخصة، وفق ما شدد عليه د.فتحي قناوي، أستاذ علم الجريمة بالمركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية الذى أكد أن اختبارات القيادة فى صورتها الحالية تفتقر إلى العمق، وتعجز عن التفرقة بين مَن يتحكم فى عجلة القيادة، ومَن يتحكم فى نفسه. وأضاف أن كثيرًا من السائقين اليوم، يتعاملون مع القيادة كأنها استعراض قوة، لا مسئولية، وأن الطريق عند أغلبهم ليس مرفقًا عامًا، بل «ملكية خاصة»، يتصرف فيها كل واحد كما يحلو له، دون اعتبار لأمن غيره أو حياة الآخرين. وتابع قناوي قائلًا: «مينفعش الامتحان يكون دوس بنزين وفرامل وخلاص، لازم نفكر فى اختبارات تكشف الثبات الانفعالي، لأن فيه ناس بتسوق كويس، لكن بتنفجر في أول احتكاك، وتتصرف كأنها فى معركة». ◄ تعمد المخالفة وأوضح قناوى أن هناك شخصيات تتعمد ارتكاب المخالفات بشكل متكرر، لا بدافع التهور فقط، بل بدافع نفسى أعمق، قائلًا: «ده شخص نرجسى مهزوز، بيحاول يثبت لنفسه إنه موجود، حتى لو بارتكاب الخطأ، وكأن الرسالة اللى بيبعتها للناس هي: أنا بعمل الغلط ومحدش يقدر يراجعني.. أنا فوق القانون». واعتبر أستاذ علم الجريمة، أن هذا النموذج الإنساني يعيش بمنطق «الشخص الأوحد»، الذى يرى العالم يتمحور حوله، ويتعامل مع المجتمع من خلال مبدأ «أنا ومن بعدى الطوفان»، فيرفض المشاركة، ولا يرى فى الانضباط قيمة، بل ضعف. وتابع: «هو شايف نفسه مش متشاف، ملوش تأثير في أي حاجة فى الحياة، فيرتكب المخالفات عشان يثبت في مخيلته أنه موجود، حتى لو كان وجودًا مؤذيًا... هو شرارة، ومايعرفش إن النار كلها بتبدأ بشرارة صغيرة». وشدد على أن هذا النوع من السائقين لا يقدم فقط نموذجًا سيئًا على الطريق، بل يزرع صورة سلبية مُعدية، لأن السلوك العدوانى ينتشر، والصوت العالى يغطى على صوت القانون، مضيفًا: «الناس دى لا بتحترم قانون مرور، ولا عندها استعداد تشارك فى أى شيء يفيد المجتمع أو يحقق أمنه واستقراره، رغم أن الدين نفسه بيحض على احترام حياة الآخرين». ◄ بلا أخلاق وقال بنبرة حاسمة: «الناس دى معندهاش أخلاق، رغم أن الأخلاق عماد المجتمع، والقانون من غير ضمير بيبقى نص ميت، الناس دى مش عايزه تتحاسب، عايزة تمشى بكيفها، وتستعرض الغلط كأنه بطولة». وطالب قناوى بتوفير دورات تثقيفية حقيقية للسلوك، والقدرة على التحكم الانفعالي، خصوصًا مع الحالات المتكررة للمخالفات التى تمس حياة الناس وسلامتهم، مشيرًا إلى أن الحل ليس دائمًا فى تغليظ العقوبة، لأنه «لو كانت العقوبات كافية، كان حكم الإعدام كفيلًا بوقف جرائم القتل»، واختتم قائلًا: «النبت السيئ لا يضر نفسه، بل يضر الآخرين». ◄ مَن أمن العقاب أساء الأدب من جانبه، قال د.علاء الغندور، استشاري الصحة النفسية، إن قاعدة «مَن أمن العقاب أساء الأدب»، تنطبق تمامًا على سلوكيات عدد كبير من قائدى المركبات، معتبرًا أن غياب الردع الحقيقي، وتراجع الرقابة المباشرة، يفتحان الباب واسعًا أمام مظاهر لا يمكن وصفها إلا بأنها «فوضى على عجلات». وأشار الغندور إلى أن الأرقام الواردة فى بيان وزارة الداخلية، والتي تحدثت عن 2274 مخالفة فقط للسير عكس الاتجاه خلال نصف عام، «لا تُعبِّر بأى حال عن الحجم الحقيقى للكارثة»، موضحًا أن «هذه الإحصاءات لا تشمل القرى والنجوع والمناطق غير المغطاة بكاميرات المراقبة، ولا تلك التى تغيب عنها دوريات المرور تمامًا»، مؤكدًا أن السير عكس الاتجاه وحده «لا يقل عن مليونى حالة سنويًا»، فى ظل ما وصفه ب«شعور متفاقم باللامبالاة، وانعدام الاكتراث، وكأن لسان حال البعض يقول: وليحترق الآخرون». ◄ سلوكيات غير منضبطة وأضاف أن المشكلة ليست فقط فى المخالفة الظاهرة، بل فى شبكة من السلوكيات غير المنضبطة التى لا تُحتسب أصلًا ضمن الإحصاءات الرسمية، مثل عدم الالتزام بالحارات المرورية، أو القيادة بسرعة أقل بكثير من الحد الأدنى على الطرق السريعة، أو الاستخدام العشوائى ل«الكلاكس»، أو الإضاءة العالية دون مبرر... كلها أنماط تكشف انعدام احترام المنظومة، بل ورفضًا ضمنيًا لها. وشدد الغندور على أن الردع المالي لم يعد كافيًا وحده، مضيفًا: «لابد من دورات تأهيل نفسى للمخالفين، ومقررات سلوكية تُفرض على كل مَن يرتكب مخالفة مرورية، إلى جانب الغرامة»، مؤكدًا أن الكشف عن تعاطى المخدرات يجب أن يكون إجراءً إلزاميًا ودوريًا لكل السائقين، لا إجراء عشوائيًا أو انتقائيًا، فهذه «عقول تسير على الأسفلت». ◄ مليون صحة نفسية وعن الحلول المقترحة، دعا الغندور إلى مبادرة وطنية شاملة تُعنى بالصحة النفسية على غرار «مبادرة المليون صحة»، قائلًا: «أقترح إطلاق مشروع قومى بعنوان: مليون صحة نفسية، يكون هدفه قياس درجة التركيز والثبات النفسى لدى المواطنين، خصوصًا عند مَن يتقدم للحصول على رخصة قيادة، عبر اختبارات متخصصة تُدار باحتراف». واعتبر الغندور أن الشخصية التى تُكرِّر المخالفات وتتعمد انتهاك القانون دون اكتراث«هى شخصية عدوانية نرجسية، بل فى كثير من الأحيان سيكوباتية، تستمد شعورها بالمتعة من الاستهتار بالقانون وازدرائه، كأنها تتحدى المنظومة وتراهن على الغياب التام للعقوبة». واختتم قائلًا: «نحن أمام أزمة مجتمع تتجاوز حدود الطريق، وتمتد إلى بنية التربية والتنشئة، لذلك لا بد من تفعيل دور الأسرة في غرس احترام الآخر، وتعليم الطفل قانون العيب والأخلاق، وعلى الإعلام أن يؤدى دوره فى تشكيل وعى جماعى حقيقي، لا يكتفى بالتحذير، بل يُربّى على الانضباط والإيثار منذ الصغر وحتى الكِبر». ◄ اقرأ أيضًا | تحرير 543 مخالفات مرورية بسبب عدم ارتداء الخوذة ◄ أين التواجد الأمني؟ «لا ينبغى أن ندفن رؤوسنا فى الرمال كالنعام!».. بهذه العبارة بدأ المهندس عادل الكاشف، رئيس الجمعية المصرية لسلامة المرور، حديثه، مؤكدًا أن أزمة المخالفات، وعلى رأسها السير عكس الاتجاه، لا يمكن التعامل معها بمنطق الإنكار أو إلقاء المسئولية على أطراف بعيدة عن جوهر المشكلة. وتَساءل: «أين التواجد الأمنى على الطرق؟ أين التواجد المرورى الفعلي؟ وأين تلك الشخصية النظامية التى كانت تُشعِر الناس بأن هناك مَن يراقب حركة الشارع؟»، مؤكدًا أن هذا الغياب أفسح المجال أمام المخالفات بأن تتفشى، فى ظل شعور عام بانعدام الردع. وفيما يتعلق بالكشف عن تعاطى المواد المخدرة، شدد الكاشف على ضرورة ألا يُحصر هذا الإجراء على سائقى النقل فقط، بل يشمل جميع حاملى رخص القيادة دون استثناء، مؤكدًا أن «الرقابة الحقيقية تكاد تكون مُنعدمة، وأن الكشف في صورته الحالية يتم بلا إشرافٍ كافٍ، مما يُفرغه من قيمته الوقائية». ◄ السلوك السوى قبل الرخصة وانتقل إلى ملف التراخيص، فأكد أن رخصة القيادة يجب أن تُمنح بعد التأكد من السلوك العام لحاملها، وليس فقط من قدرته على قيادة المركبة، وأشار الكاشف إلى أن منح الرخص لمدد طويلة دون تقييم حقيقى يمثل مشكلة كبيرة، موضحًا أن «الرخصة التى تُمنح لمدة عشر سنوات - سواء لشاب فى مقتبل العمر، أو لرجل متقدم فى السن - لا بد أن تمر بمراجعة صحية ونفسية جادة، وليس كشفًا روتينيًا شكليًا». واختتم تصريحه قائلًا: «إذا كنا نؤمن بأن القيادة مسئولية، فلابد أن يبدأ الانضباط منذ لحظة إصدار الرخصة، لا من لحظة وقوع الحادث، إن معالجة الفوضى لا تكون بالعقوبات وحدها، بل بالرقابة، والعدل فى التطبيق، والجدية فى منح الرخص، وإدراك أن الطريق مرفق عام لا ساحة للفوضى أو الاستعراض». ◄ وعي مجتمعي حقيقي وفي سياق دور المجتمع المدنى فى التوعية، قال المهندس سامى مختار، خبير السلامة على الطرق ورئيس الجمعية المصرية لرعاية ضحايا الطرق وأسرهم، إن الوقاية من الحوادث تبدأ من بناء وعى شعبى حقيقى بمسئولية القيادة وأخلاقياتها، مشيرًا إلى أن الأرقام وحدها لا تمنع الكوارث، إن لم تُصاحبها ثقافة مُجتمعية ضابطة، وأوضح مختار أن تصنيف أسباب الحوادث يبدأ بالطريق، ثم المركبة، ثم العنصر البشري، إلا أن منظمة الصحة العالمية تُقر بأن 80% من الحوادث حول العالم سببها سلوك السائقين، ما يضع الإنسان - لا التكنولوجيا - فى قلب المشكلة والحل معًا. ورغم تطور شبكة الطرق فى مصر مؤخرًا، إلا أن مختار شدد على أن الحوادث ما تزال قائمة، نتيجة خلل فى بعض مواصفات الطرق - لا كلها - وهو ما يُحتِّم، على حد وصفه، «ضرورة وجود رقابة صارمة فى مرحلة استلام الطرق بعد تنفيذها، مع التركيز على معالجة ما يُعرف ب«النقاط السوداء»، وهى مناطق تكرار الحوادث، وأكد أن هناك إدارات متخصصة تحلل تلك المناطق لتحديد العوامل الفنية المؤدية للحوادث بها والعمل على إصلاحها. وعن دور الجمعية المصرية، أشار مختار إلى أنها تُنفِّذ منذ سنوات حملات توعية مستدامة تستهدف كل الفئات، وتركز على قضايا مثل: القيادة الآمنة، استخدام حزام الأمان، مخاطر السرعة، والوقاية من المخدرات، وقال إن الجمعية أطلقت مؤخرًا حملة بعنوان: «السرعة.. هلاك لا محالة»، بالتعاون مع وسائل الإعلام، لتغطية أشهر الصيف الجاري، وهى حملة نوعية تستهدف التأثير فى سلوك السائقين على الطرق السريعة، وتُعد واحدة ضمن سلسلة ممتدة من حملات التوعية التى تشمل الأطفال وطلاب الجامعات والنساء. وشدد مختار على أن الردع القانونى وحده لا يكفي، مؤكدًا أن «الوعى المجتمعى حائط الصد الأول»، وأن التربية المرورية يجب أن تبدأ فى المراحل العمرية المبكرة، بالتوازى مع الرقابة الذكية. وفي هذا السياق، أشاد بالجهود التى تبذلها الإدارة العامة للمرور، لكنه ناشد بتوسيع تطبيق منظومة «الطرق الذكية»، التى تقوم على تغطية الطرق بكاميرات عالية الكفاءة، ترصد كل المخالفات، وتُحدد بدقة المتسببين فى الحوادث، بل وتُبلغ تلقائيًا عن الحوادث دون انتظار بلاغ بشري، مما يُسرِّع عمليات الإنقاذ، خاصة فى حوادث النقل الثقيل. واختتم مختار تصريحاته قائلًا: «السلامة على الطرق ليست مسئولية أمنية فقط، بل مسئولية وعي، وتعاون، وتعليم مستمر، ولن نصل إلى طريق آمن، إلا إذا كنا جميعًا جزءًا من الحل، لا متفرجين على الحطام». ◄ 80% من الحوادث سببها السائقون وعلاج «النقاط السوداء» أهم الأولويات ◄ 106 آلاف مخالفة عدم استيفاء المركبات لاشتراطات الصلاحية الفنية ◄ 77 ألف مخالفة للوحات المعدنية، سواء بإزالتها أو تغيير بياناتها أو إخفائها عمدًا ◄ 8.6 مليون سرعة زائدة ◄ 287 ألف حالة سير دون رخصة قيادة أو ترخيص مركبة ◄ 2274 سير عكس الاتجاه ◄ مليون عدم ارتداء حزام الأمان ◄ 128 ألف استخدام المحمول أثناء القيادة ◄ 18 مليون مخالفة مرورية خلال الفترة من 1 يناير حتى 30 يونيو ◄ 4.2 مليون عدم وجود الملصق الإلكتروني، وتركيب سارينات أو فلاشات ◄ 460 مركبة تم التحفظ عليها بين سيارات ودراجات نارية، لعدم التزامها باشتراطات الترخيص ◄ 84 ألف مخالفة عدم ارتداء خوذة الرأس ◄ 7427 سحب رخصة لارتكاب أصحابها مخالفات مرورية متنوعة ◄ 400 ألف لسيارات النقل الثقيل: تجاوز الحمولة المقررة، والسير فى الاتجاه الأيسر من الطريق، والتنقل فى أوقات الحظر، ونقل ركاب داخل صناديق التحميل ◄ 55 ألف سائق تم توقيع الكشف عليهم عن المواد المخدرة، وتَبَيَّن أن 2250 سائقًا كانت نتائجهم إيجابية، بنسبة بلغت 4.2%، وتم إجراء التحاليل لعدد 10٫859 سائق «باص مدرسة»، تَبَيَّن تعاطى 29 منهم للمواد المخدرة، بنسبة بلغت 0.27%، وتم استبعادهم فوراً من العمل.