أحمد عايد عشتُ دهرًا لا أقرب المسرح، بعد محاولاتٍ متكرِّرة لقراءة النصوص المهمة والملهمة، والتى مُنيت بالفشل فى جعلى أحب المسرح، فلطالما شعرتُ أنَّ شيئًا رئيسيًا ينقص ما أقرأه، ربما كنتُ أقيس فن المسرح على فن الرواية الذى يمنح القارئ هوية مكانية وزمانية كاملة أو شبه كاملة، أو فن الشِّعر الذى يمنح للقارئ سلطة التخيل المطلقة وأخيرًا توقَّفتْ علاقتى بالمسرح مع المسرحيات الكوميدية التى تربَّى عليها جيلى، بعدما بُليت بمشاهدة عروض مسرحية سخيفة للغاية. ولطالما استرعى انتباهى فى هذه القطيعة أنَّ المسرح لا يزال مستمرًّا، أنا الذى اعتقدتُ أن فنَّ المسرح ينبغى أن يندثر بظهور التلفاز ومن ثم السوشيال ميديا ثم الذكاء الاصطناعى. وربما لأننى لستُ من العاصمة، وربما لقراءاتى المحبطة فى المسرح وتجاربى اليائسة فى مشاهدة العروض، لم أقترب أو أبحث عن طريق للذهاب إلى المسرح. لكن المسرح فى عام 2024 قرَّر أن يندهنى. اتصل بى المخرج أحمد رضوان، وهو صديق قديم منذ الأنشطة الفنية التى عمَّت البلاد فى أعقاب الفترة المخملية لثورة يناير 2011، وقال لى: «لدينا عرض مسرحى اسمه (كرنفال الأشباح) باللغة العربية الفصحى، أريدك أن تلقى نظرة عليه لإبداء الملاحظات» ذهبتُ، ولم يكن الغرض أن ألقى نظرة، بل توريطى فى العمل معهم عليه، فى مسارَين، الأول- المراجعة اللغوية للنص ومن ثم الممثلين، والثانى- كتابة أشعار للمسرحية تصلح للغناء. حاولتُ التهرب، ولم تفلح محاولاتى.. وصرتُ أمام تجربة جديدة طويلة. تجربة لا أعرف عنها شيئًا.. لا أعرف كيف أتعامل مع ممثل ليحفظ كلامه وينطقه بطريق سليمة، ولم أكتب أغانى بالفصحى من قبل! أرسلوا إلىَّ النص، وضبطتُه كاملًا بالشكل، ثم ذهبتُ إليهم لنبدأ ضبط النص مع الممثلين. هذه أول مرة فى حياتى أحضر بروفة مسرحية.. ولأن العادة المصرية لا تحترم الوقت والمواعيد غالبًا، فحين وصلتُ كانوا لا يزالون يعملون فى بروفة رسم الحركة. فاضطررتُ للجلوس وقتًا طويلًا أنتظر انتهاءهم، لأبدأ عملى.. لكن هذا الحدث الذى سيتكرر بصفة دائمة، هو ما سيكسر الحاجز الذى بينى وبين المسرح. رأيتُ كيف يتحرك الممثلون، هذه الحركات ليست عبثًا، كل نظرة وكل التفاتة وكل استدارة وكل خطوة وكل سكتة وكل درجة صوت وكل رمشة وتحديقة أمر مُرتَّب له، جرَّبه الممثل عشرات المرات، إن لم يكن مئات المرات. بدأت أستوعب أن المسرح أصعب من التمثيل السينمائى، أسعدنى الحظ بحضور تصوير بعض المشاهد السينمائية؛ ممثل السينما قد تأتى معه اللقطة من أول مرة فلا يحتاج أن يعيدها، وقد تأتى بعد مرات قليلة، وقد تُجمع اللقطة من أكثر من تصوير وتُركَّب معًا، أما فى المسرح فالأمر يتجاوز هذا تمامًا، الأمر يحتاج أن تتقن مشهدك بكل تفاصيله وحركاته وردود أفعاله وكلامه، ثم بعد هذا تعيده وتزيده، ليخرج على عتبة المسرح فى غاية الإتقان بلا أى تلعثم ولا ارتباك.. ولنضف إلى ذلك هيبة الجمهور والحضور.. والأخطاء التى قد تحدث فجأة دون أن يتدرب عليها الممثل أو يتوقعها المخرج. العرض أغلبه شباب صغير السن، بل وبعضهم يمثل لأول مرة، هذه صعوبة تنضاف لصعوبة قلة الخبرة. النص ثقيل ومحمل برؤى فلسفية، وأدوار الممثلين متشابكة للغاية، وإيقاع العرض سريع جدًّا جدًّا. بعد بروفتَين، أصابنى دور برد شديد، صرتُ لا أسمعُ جيدًا بسببه فترةً طويلةً، فانقطعتُ شهَرين عنهم، ثُمُّ عدتُ إليهم، تغير كثيرٌ من الممثلين، وانضم إلينا ممثلان كبيرا السن، ولفتنا انتباهى جدًّا، كلاهما ممثل متقن ومحترف، لكن أحدهما لفت انتباهى بمدى جديته والتزامه بمواعيده، وسرعة استجابته للتعديلات، وانصياعه للمخرج.. وأستطيع بكل أريحية أن أقول إن كل هذه الصفات يوجد عكسها بدرجات مختلفة فى بقية الممثلين. بعد العودة، كتبتُ الأشعار، وعملنا عليها مع المخرج وبعض الممثلين، لكننى فى هذه الفترة انتبهتُ لخطأ فادح وقع، هو أن الممثلين حفظوا كلامهم دون الرجوع إلىَّ، وهو ما جعل الأخطاء كثيرةً وشنيعةً، ولعلاج هذا ينبغى منِّى تكرار التصحيح مرَّاتٍ ومرَّاتٍ، وهو ما جعلنى أذهب إليهم ثلاث مرات أسبوعيًّا.. وانخرطتُ معهم تمامًا.. وصرتُ كأننى منهم. فى هذه الفترة رأيتُ كيف يعمل المخرج وراسم الحركة والممثلون على تطوير المشاهد، وتعديلها، وكلما انتهوا من مشهد صوروه، ليروه من زوايا مختلفة، ويكتشفوا الأخطاء والعيوب، ويعملوا على علاجها.. وعرفتُ أنَّ ما أراه على خشبة المسرح ليس وليد صدفةٍ أو خبطة حظٍّ، بل هو مجهود كبير خرافى. جاءت لحظة العرض الأوَّلى فى محافظة السويس والتى ستستمر ثمانية أيام، اعتبرناها بروفات لكن بجمهور. وكم استفدنا من تعليقات الحضور سواء كانوا جمهورًا عاديًّا أم جمهورًا متخصِّصَا. واقترح علينا المسرحيُّون تعديلات أُخذت فى عين الاعتبار. فى أوَّل ليلةٍ فى هذه العروض سمعتُ لأوَّل مرةٍ أوَّل أغنية، وكان يؤديها فريق الأشباح لا الممثلون الرئيسيون، ومع قوة الصوت الجماعى ودهشة الاستماع لكلماتى مُغنَّاة، سالت الدموع من عينَى، وصفقتُ فرحًا. ثم انتقلنا لعرض تقييمى على مسرح الإسماعيلية، تعذر حضورى قبل العرض، وجئت يوم العرض أمام لجنة التحكيم لأحضر بروفة جينرال، حين دخلتُ المسرحُ صُعقتُ من هول ضخامته، وعلمتُ أنَّه أكبر مسرح فى مصر. بعد العرض أمام اللجنة، جاءنى أكثر من أحد، وأثنوا على مجهودى، وأخبرونى بأنهم حين سألوا المخرج، أجابهم بأن مجهودى لم يقل عن المخرج وراسم الحركة، فأجابوا بأن هذا هو السبب، فأغلب مراجعى المسرحيات لا يحضرون كثيرًا ويكتفون بالتصحيح مرات قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. ظللنا فترةً طويلةً ننتظر هل سنُصعَّد على مستوى الجمهورية للعروض الختامية، وحين جاء الخبر بالتَّصعيد، عادت خلية النحل للعمل، ثمانية أيام من العمل ليل نهار.. وعدنا للبروفات بنشاط كبير، وأخذنا كل التعديلات المقترحة وطوَّرنا العرض. فى القاهرة، على مسرح روض الفرَج، وهو مسرح أصغر من مسرح الإسماعيلية، ثلاث مرات، احتوى ديكور مسرحيتنا بالكاد، عرضنا العرض الختامى، والآن ننتظر هل سنصعد للمسرح القومى. عدتُ من هذا العمل أحمد غير أحمد السابق، صرت أحب المسرح، بل وأسأل هل هناك عروض أخرى سنعمل عليها، ومع محاولات للإغراء بكتابة نصوص مسرحية، ومحاولات لجرِّى إلى خشبة المسرح للتمثيل. صرتُ أربط الجمل فى الواقع بالجمل فى المسرحية، وصرتُ موقنًا أن «الحياة ما هى إلَّا مسرحٌ كبيرٌ» كما يُنسب إلى ويليام شكسبير. ويمكننى القول بأنَّ هذه التجربة صالحتنى على المسرح، فالشُّكر الجزيل للمخرج أحمد رضوان، والممثلين بدون ترتيب: صلاح محمد، وحسن عبد العزيز، وأحمد المغربى، وهاجر الخولى، وأيمن الشريف، ومحمد محيى، وبيشوى ألبير، وعُمر حسين، ودينا الوردانى، ومريم شوقى، وروضة محمد، ومعاذ صابر، وهبة محمد. ورامى عاطف، وناريمان عبد العال.. لولاكم ما صالحتُ المسرح.