إعادة هندسة الإقليم فى مرحلة ما بعد العواصف الأخيرة لا يقتصر فقط على إعادة ترميم تحالفات قديمة أو بناء أخرى جديدة، لكنه ربما يشمل أيضًا إعادة هندسة الإقليم فكريًا، وقد يكون ذلك هو الأخطر فى أعقاب العواصف تسطع الشمس، وتصفو الأجواء، ويلتقط من نجوا من الفوضى أنفاسهم، مستشعرين إحساسًا عميقًا بالارتياح. لكن فى منطقة مثل الشرق الأوسط لا تدعو فترات الهدوء التى تعقب العواصف إلى الاطمئنان، فكثير ممن يجيدون قراءة طالع المنطقة ويعرفون جيدًا عوامل الاشتعال فيها يخشون دائمًا من أن كل هدوء يشهده الإقليم قد يسبق عاصفة أخرى قادمة! المؤكد أن ما مرت به المنطقة - ولا تزال - على مدى أكثر من 20 شهرًا كان واحدة من أعتى العواصف التى عرفتها منذ عقود، فالمواجهة المتدحرجة بين إسرائيل وبين كل ما ومن تتصور أنه يمثل مصدر تهديد لأمنها، أعاد أجواء الحرب المفتوحة إلى المنطقة، بل وأخرج القاذفات الاستراتيجية الثقيلة الأمريكية من مخابئها التى ظلت كامنة فيها طيلة أكثر من 20 عاما. انتهت المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية بعد 12 يومًا من اشتباكات عن بعد، وأعلن كل طرف انتصاره فى تلك الجولة، وسريعًا لملمت واشنطن الأمور بعد ساعات من ضربها لثلاث منشآت نووية إيرانية، استعرضت خلالها أثمن قطعها العسكرية، التى تبدو مثل قطعة المجوهرات النفيسة التى لا تخرجها النساء الثريات من خزائنها الحصينة سوى فى الاحتفالات الكبرى، أو لتذكير الجميع بأنها لا تزال صاحبة النفوذ والسطوة، وأن أحدًا لا يستطيع الصمود فى مضمار المنافسة معها. ¶ ¶ ¶ «هل انتهت العاصفة؟» سؤال قلق لا يزال معلقا فى سماء الشرق الأوسط بلا إجابة واضحة، الجميع أثخنته الجراح، سواء الأطراف المباشرة التى طالتها نيران الحرب، أو حتى تلك التى لم تتورط فى القتال، لكن كان عليها أن تتحمل تداعيات الشظايا المتناثرة. المؤشرات تنحو باتجاه تهدئة قادمة، ليس لأن القضايا تم حلها أو أن تسويات عادلة جرى التوصل إليها، بل لأن الجميع يبدو منهكًا ويحتاج إلى قسط من الراحة، وربما لأن الولاياتالمتحدة تريد أن تدفع الأمور فى هذا الاتجاه أملًا فى حصد ثمار الحرب ماديًا ومعنويًا، فضلًا عن رغبتها فى استمرار اتجاه إعادة هندسة الإقليم بما يخدم مصالحها، سواء عبر إعادة تحريك قطار التطبيع نحو محطات أخرى تراها واشنطن مليئة بفرص الربح، بعدما أثبتت للجميع أنها لم تغادر مسرح الأحداث بالمنطقة، ولن تسمح لأى طرف أن ينازعها النفوذ على «برميل البارود الشرق أوسطى»، الذى تحرص دائما على أن تؤكد للجميع أنها من تملك إشعاله أو نزع فتيل انفجاره!! ¶ ¶ ¶ ربما نشهد أيضًا دخول ساحات جديدة إلى حلبة التنافس الإقليمى والدولى، وهنا يبرز اسم سوريا الشقيقة التى نرجو لها السلامة. وقد تعود السخونة لملفات توارى الاهتمام بها قليلًا بسبب دخان المعارك التى لم تخمد فى عدد من الجبهات الإقليمية، فالوضع فى ليبيا مرشح للتصاعد، والمواجهة فى السودان لم تصل بعد إلى مرحلة الحسم النهائى. خريطة التحالفات فى الإقليم قد تشهد تحولات كبيرة أيضًا، فرصيد الثقة فى الحلفاء الدوليين شهد نزيفًا سريعًا خلال الأشهر الأخيرة، ولعل المواجهة الإسرائيلية- الإيرانية كانت مثالًا سيدفع العديد من الأطراف لمراجعة حساباتها بشأن رهانها على دعم حلفاء خارج المنطقة عندما تصل الأمور إلى لحظة المواجهة. تقاربات عديدة قد تحدث بين قوى إقليمية كانت تتنافس، وبات عليها أن تتعاون، وربما سيكون استشعار الجميع لحجم الخطر دافعًا ل»مقايضات حيوية» تسهم فى إدارة أفضل للمصالح المتعارضة فى بعض الملفات، خاصة أن ذلك التعارض لم يصل بعد إلى نقطة اللاعودة. تراجع المشروع الإيرانى خطوة إلى الوراء، والضربات الموجعة التى طالت أذرعه فى المنطقة قد يراها البعض مدعاة لاستشعار نوع من الهدوء، لكن فى المقابل قد يكون ذلك التراجع فرصة مغرية لقوى إقليمية أخرى لملء الفراغ، ومحاولة البحث عن أدوار جديدة لتعظيم النفوذ الإقليمى، وهنا يمكن الإشارة إلى كل من إسرائيل وتركيا، فلكل منهما رؤيته وتصوره لدور أكبر، رغم اختلاف أدوات كل طرف لتحقيق تلك الرؤية. إسرائيل ستسعى وبكل تأكيد إلى تعويض خسائرها، وتحويل ما تكبدته ماديًا وبشريًا طيلة شهور المواجهة الأخيرة إلى مكاسب استراتيجية واقتصادية، سواء بالقضاء على أية فرصة لدولة فلسطينية مستقبلية، وتكريس وضع يضمن لها التدخل لإخماد أى مصدر تعتقد أنه يمثل لها خطرا فى الأراضى المحتلة. وتركيا تحاول إعادة التموضع إقليمياً، خاصة بعد تغير نظام الحكم فى سوريا، وتحسن علاقاتها مع معظم دول المنطقة. ¶ ¶ ¶ إعادة هندسة الإقليم فى مرحلة ما بعد العواصف الأخيرة لا يقتصر فقط على إعادة ترميم تحالفات قديمة أو بناء أخرى جديدة، لكنه ربما يشمل أيضا إعادة هندسة الإقليم فكريًا، وقد يكون ذلك هو الأخطر، فإسرائيل ورغم كل ما فعلته تحاول أن توجد لنفسها موضع قدم ليس فقط فوق أراضى العرب، ولكن فى عقولهم عبر موجة من الترويج لتطبيع شامل، يحاول أن يضع دولة الاحتلال فى قلب معادلات المنطقة الشعبية وليس الرسمية فقط، بحيث تتغلغل إلى صلب الواقع العربى وتحقق القبول الذى طالما سعت إليه لتتجاوز كونها دولة منبوذة لا تشبه ولا تنتمى إلى المحيط الذى توجد فيه. هذه المساعى الإسرائيلية تعتمد على محاولة الدفع باتجاه موجة غير مسبوقة من التطبيع بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، بعض تلك الدول يذهب إلى الاندماج فى تلك الموجة باختياره طمعًا فى رضا أمريكى قادم، والبعض الآخر يخطو إليه مضطرًا تحت وطأة اضطراب داخلى قائم، وفى كلتا الحالتين فإن ذلك التطبيع لا يعنى قبولًا حقيقيًا ومستدامًا لإسرائيل فى المنطقة، بل رغبة فى تجنب ضغوط أمريكية محتملة. وكلتا الحالتين لا تؤشران إلى إمكانية استقرار لحالة السلام الإقليمى، بل ربما تكون خطوة على طريق محفوف بالمخاطر، لأن ذلك التطبيع يبدو مرفوضًا من جانب الشعوب، ولا يقابله تحرك جاد نحو سلام عادل وشامل يمكن أن يقنع الجميع بأن واقعًا جديدًا تشهده المنطقة، بل إنه فى الحقيقة يكشف أن واقعًا جديدًا يجرى فرضه عنوة. ¶ ¶ ¶ تأمل حالة الإقليم فى مرحلة ما بعد العاصفة تشير كذلك إلى محاولات جديدة لإحياء دور بعض جماعات التأسلم السياسى، وكذلك إعادة استخدام سلاح الإرهاب كورقة ضغط أو وسيلة لتصفية حسابات لم تستطع الأدوات التقليدية أن تنهيها، وللأسف فإن المنطقة مليئة بجحور متعددة تختبئ فيها تلك الجماعات التى ربما تلقت قبلة جديدة للحياة بعدما حدث فى سوريا من تغير جاء ببعض تلك الجماعات إلى سدة الحكم، الأمر الذى أنعش آمال المترقبين من بعيد فى تكرار السيناريو ذاته فى دول أخرى لا تزال تعانى من التمزق الداخلى. ولعل محاولات إعادة بعث الحياة فى بعض الجماعات المتأسلمة، والبحث لها عن دور فى المرحلة المقبلة، سواء بشقها المسيس، أو بأذرعها الإرهابية أمر يدعو للحذر، فهذه الجماعات أدخلت المنطقة على مدى سنوات طويلة فى دوامة من الفوضى، وتسببت فى بث الانقسام والفُرقة وسط صفوف شعوب، فضلًا عن استنزافها لقدرات جيوش وطنية، وهو هدف مقصود ومطلوب فى حد ذاته، سواء من تلك الجماعات أو ممن يقفون وراءها. واليوم تعود بعض تلك الجماعات والأذرع الإرهابية إلى المشهد مجددا، استغلالا لواقع إقليمى مرتبك، فهذه الجماعات لا تحيا إلا وسط الفوضى، ولا تجد لنفسها مكانًا إلا بين ركام الأوطان. وعودة تلك الجماعات أو محاولات إعادتها إلى دائرة الضوء، حتى ولو كانت تلك المحاولات فى بعض الأحيان مجرد استعراض فارغ، على غرار ما بثته جماعة «حسم» الإخوانية الإرهابية مؤخرًا، لكنها على الأقل يمكن أن تكون إنذارًا يستوجب الحيطة والحذر، وفرصة لتحذير العديد من دول المنطقة التى عانت ولا تزال من تأثير تلك الجماعات بأنها قد تكون على أعتاب موجة جديدة من الاستهداف. كما أن تلك المحاولات الخبيثة لإعادة توظيف جماعات الإرهاب واستخدامها فى أداء أدوار ما خلال الآونة المقبلة، قد يكون كذلك فرصة لإيقاظ المناعة الوطنية فى الدول التى استطاعت أن تواجه خطر تلك الجماعات، وتتصدى رسميًا وشعبيًا لسموم تلك الأفاعى، وفى مقدمة تلك الدول مصر، فالأمر يستوجب يقظة وطنية شاملة، وما يجرى فى الإقليم من حولنا يضاعف من واجبنا ومسئوليتنا كأفراد ومؤسسات من أجل التكاتف والوقوف صفًا واحدًا فى مواجهة أية مصادر لتهديدات محتملة. ¶ ¶ ¶ كل هذه التحديات تضاعف من الأعباء الملقاة على الدول العربية، التى تواجه ضغوطًا استراتيجية غير مسبوقة، بل وربما تهديدات وجودية تكاد تهدد بقاء بعض تلك الدول، فضلًا عن ارتباط الأوضاع الداخلية فى العديد من تلك العواصم بتطورات الأزمات الإقليمية وتداعيات ما بعد العاصفة، فدول مثل لبنان واليمن والسودان وليبيا ومعهم بالطبع سوريا، قد تجد نفسها أمام أعباء ثقيلة جراء التسويات الإقليمية فى المرحلة المقبلة، وقد تواجه اشتعالًا لبعض الملفات، أو تجد نفسها جزءًا من إعادة هندسة إقليمية، سواء أرادت ذلك أو لم ترده. قضية العرب المركزية وأعنى القضية الفلسطينية، هى الأخرى تواجه تحديًا غير مسبوق يكاد يعصف بوجودها، فرغم أن شرعية حل الدولتين وحق إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، ليس بأى حال من الأحوال محل شك، لكن أفق تطبيق هذا الحل، فى ظل استمرار الانقسام الفلسطينى، ووسط أجواء إقليمية مرتبكة وبيئة دولية يهيمن عليها الاستقطاب، يبدو محاصرًا بشكوك عميقة حول إمكانية تحويل الحلم إلى واقع، على الأقل فى المديين القريب والمتوسط. وإجمالًا، فإن النظام الإقليمى العربى يواجه واحدة من أصعب لحظاته، فالكثير من مكونات ذلك النظام ترزح تحت وطأة أزماتها الداخلية، وبعض تلك الدول يخوض منذ سنوات طويلة حربًا أهلية داخلية تعصف بحاضره وتهدد مستقبله، وحتى الدول التى نجت من عاصفة العقد الماضى المسماة ب«الربيع العربي» لا تزال تتعافى من التداعيات عميقة التأثير اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا. والعديد من القضايا الحيوية التى تمثل إطارًا جامعًا للقوى العربية، تسربت إليها تباينات الرؤى والمصالح، فضلًا عن تصاعد حدة الاستقطابات العالمية الراهنة والتى ألقت بظلال سلبية على طبيعة المواقف والخيارات المتاحة، الأمر الذى أضاف ضغوطًا كبيرة على توازنات النظام الإقليمى العربى وقدرته على التصدى للتدخلات غير العربية فى شئونه. ¶ ¶ ¶ وسط هذه الصورة التى تبدو ملبدة بضبابية مقلقة، يبزغ رهان صادق على إمكانية خروج الحلول من رحم الأزمات، لا سيما وأن المنطقة كانت دائمًا ولا تزال فى مرمى النيران، لكن قدرة دول المنطقة على الالتئام فى مواجهة المخاطر مثلت طوق نجاة فرضته الضرورة. وفى كل منعطفات المنطقة عبر تاريخها كانت مصر حاضرة فى مواجهة اللحظات الصعبة، تلعب دورها الذى منحه لها التاريخ ووهبته لها الجغرافيا، والتزمت هى به على مدى قرون طويلة، فقد استطاعت القاهرة أن تكون الرقم الأهم فى معادلة إنقاذ المنطقة فى مواجهة كل قوى التهديد الخارجية. والحقيقة أن السياسة المصرية تعتمد مبدأ «التوازن الاستراتيجي» وتنفذه بشكل دقيق، وهو ما يضيف إلى الأدوار التى تقوم بها القاهرة رصيدًا متعاظمًا من الاحترام والثقة، فالمصالح المصرية دائمًا هى البوصلة، والتوازن فى علاقات مصر العربية والإقليمية والدولية، والحفاظ على شراكات استراتيجية مع مختلف القوى الفاعلة، أمر يمنح الدولة المصرية مرونة وقدرة على التعامل بفاعلية مع العديد من الملفات المعقدة، مثل ملف الهدنة فى قطاع غزة، أو الموقف فى ليبيا والسودان، فضلًا عن تعقيدات المشهد فى البحرين المتوسط والأحمر. وتحافظ مصر كذلك على التزام راسخ بعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، واحترام قواعد القانون الدولى، والإسهام بفاعلية فى الجهود الإيجابية الرامية للحد من الصراعات وإطفاء الحرائق المشتعلة من حولنا، وهذه المبادئ والمصداقية الكبيرة فى التطبيق تمنح السياسة المصرية درجة عالية من الموثوقية، تتطلبها إدارة تداعيات ما بعد العاصفة الراهنة فى الشرق الأوسط. وهناك العديد من الملفات الصعبة والمتشابكة تحتاج بالفعل إلى الحكمة والحنكة المصرية، لعل فى مقدمتها ما بات يُعرف ب»اليوم التالي» فى غزة، وهو ملف بالغ الحساسية، ويحتاج إلى التعامل برؤية بعيدة المدى تتجاوز النظرة المتشائمة للواقع الراهن فى الأراضى الفلسطينية، لأن ترتيبات ما بعد انتهاء الحرب أمر قد تكون له تداعيات بعيدة المدى على مستقبل القضية والمنطقة، وهو ما يتطلب مفاوضا يمتلك من الخبرة والإدراك العميق لحقائق الواقع ما يجعله قادرا على توجيه دفة الأمور إلى بر الأمان، وليس أقدر على ذلك من المفاوض المصرى. وينطبق الأمر كذلك على الملفين الليبى والسودانى، ولعل من يتأمل أجندة التحركات المصرية فى الأيام الأخيرة ولقاءات الرئيس عبد الفتاح السيسى مع القادة الليبيين والفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السودانى، يمكنه أن يستشرف اهتمامًا مصريًا رفيع المستوى بحلحلة الجمود الراهن فى هذه الملفات، ودعمًا مطلقًا للحلول الوطنية لخروج تلك الدول الشقيقة من براثن الأزمة. الوضع فى البحر الأحمر وفى منطقة القرن الأفريقى لا يقل أهمية وأولوية على أجندة القيادة السياسية، واللقاءات المصرية المتكررة مع قادة الصومال وجيبوتى وإريتريا خير مثال، والالتزام المصرى بأمن تلك المنطقة الحيوية ركيزة مهمة لقطع الطريق على هواة إشعال الحرائق فى منطقة مثخنة بالصراعات والتوترات. الخلاصة، أن الفترة المقبلة فى المشهد الإقليمى لن تكون كسابقاتها، وهناك الكثير من المتغيرات تلوح فى أفق الشرق الأوسط، ومن سيتماسك داخليا، ويجيد توجيه دفة سياسته الخارجية باحترافية وقدرة وثبات وفق مبادئ واضحة ومصداقية فى الطرح والأداء يمكن أن يحقق مكاسب استراتيجية كبيرة، أما من يجيدون «البهلوانية السياسية» فعليهم أن يحذروا لخطوتهم القادمة فى حقل ألغام المنطقة.