يبدو أن النهج المتعنت الذي يتبناه الاحتلال الإسرائيلي في اللحظة الراهنة، سوف يستمر لمدة ليست بالقصيرة، في ضوء العديد من المعطيات، ربما أبرزها رغبة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في إطالة أمد الحرب، بل وتحويلها إلى حرب إقليمية شاملة، خاصة مع التوسيع المتعمد للنطاق الجغرافي للمعركة، التي تخوضها الدولة العبرية، بينما تعززها حالة من عدم الاستقرار الداخلي للعديد من أطراف الحرب، ربما ليست إسرائيل نفسها ببعيدة عنها، بينما تتجلى بصورة أكبر داخل الدول الأخرى، والتي ربما طالت الصراعات المسلحة على نطاق أهلي، والتي وصلت إلى حد الحروب الأهلية، على غرار لبنان وسوريا والعراق واليمن، وهو ما بلغ ذروته إبان حقبة الربيع العربي، في العقد الماضي، ناهيك عن المشهد الفلسطيني، الذي تأثر كثيرا جراء تقسيم الأرض، بين الضفة وغزة، تحت إدارة سلطتين مختلفتين، غابت عنهما مظلة الدولة. ولعل حالة الانقسام التي هيمنت على المشهد الداخلي في دول الإقليم، ليست بالأمر الجديد، ولكن تبقى تداعياتها الجمعية، بمثابة أمر مستجد نسبيا، إلى حد كبير، في ظل حالة من التشابك، أفرزها العدوان على قطاع غزة، وهو ما بدا على مسارين، أولهما يرتبط بمحاولات تصفية القضية الفلسطينية، في ضوء ما تحمله من إجماع إقليمي، من جانب، بالإضافة إلى تصدير حالة من الارتباك، في إطار مسار ثان، إلى الدول الأخرى، والتي ركزت خلال السنوات الأخيرة على البعد التنموي، وتحقيق قدر كبير من الاستقرار، عبر إطالة أمد المعركة، وما ينجم عن ذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية، من شأنها عرقلة عن مواصلة المسير نحو النمو، خاصة في ضوء تزامنها مع ظروف دولية صعبة، أثرت بصورة كبيرة على العديد من القطاعات الحيوية، كالغذاء والطاقة، أبرزها الأزمة الأوكرانية. وهنا يبقى توحيد الجبهة الداخلية، في دول الإقليم، بمثابة بعدا محوريا في تحقيق الاستقرار الجمعي بمنطقة الشرق الأوسط ككل، سواء فيما يتعلق بتعزيز الصمود في مواجهة الاحتلال، من جانب، أو فيما يرتبط بالبعد التنموي، في ضوء الحاجة الملحة إلى تحقيق أكبر قدر من التكامل، لمواجهة الأزمات المشتركة، والتي يمر بها العالم بأسره، من جانب آخر. وفي الواقع، تبدو التجربة المصرية، في هذا الإطار رائدة وسباقة، خاصة وأنها تمكنت من استباق العديد من الأحداث الدولية والإقليمية، عبر تدشين الحوار الوطني، والذي جمع كافة أطياف المجتمع المصري، سواء أحزب سياسية أو منظمات مجتمع مدني، بالإضافة إلى كافة الفئات المجتمعية، بدءً من الشباب مرورا بالمرأة وحتى ذوى الهمم، لتحمل المبادرة رسالة إقليمية مهمة، في توقيت حساس للغاية، في ضوء ما ساهمت به في تعزيز الداخل، ودحض أي محاولات من شأنها إعادة استنساخ فوضى العقد الماضي، بينما أظهرت إجماعا داعما للخطوات التي اتخذتها الدولة في مواجهة الظروف التي قد تطرأ على المنطقة أو العالم، سواء خلال فترة الوباء، أو بعد ذلك الأزمة الأوكرانية وتداعياتها، وأخيرا فيما يتعلق من بالمستجدات الإقليمية. إلا أن عبقرية الحوار الذي دشنته الدولة المصرية، تجاوز الداخل ومستجداته، وتفاعلاته مع العالم الخارجي، ليكون بمثابة "دفاعا استباقيا" من شأنه حماية المنطقة بأسرها، ربما استلهمته عدة دول في حينه، من بينها العراق على سبيل المثال، لتعزيز جبهتها الداخلية، وهو ما أسفر عن قدر كبير من الصلابة في مواجهة التهديدات المحيطة، بعد سنوات من الحروب والدمار والانقسام، بينما أصبح مطلبا ملحا على دول أخرى، في اللحظة الراهنة، في ظل الحاجة إلى تعزيز السلطة الحاكمة، وبسط سيطرتها على كافة أراضي الدولة، وهو ما يبدو في المشهدين اللبناني والفلسطيني. الرؤية المصرية، استلهمها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، عند حديثه عن لبنان، عندما دعا إلى تعزيز الجبهة الداخلية، عبر مسارين متوازيين، أولهما تعزيز القوات المسلحة حتى تكون قادرة على حماية التراب الوطني، بينما يقوم المسار الثاني على الحوار بين كافة أطياف المعادلة السياسية بالبلاد، من أجل تقديم حلول للقضايا العالقة، وبناء مؤسسات قوية، وهو ما يعكس في جوهره نجاح الدولة المصرية في قراءة الأحداث مبكرا، وقدرتها على تقديم رؤية استباقية، في مواجهة ما قد يطرأ من محاولات لتصدير حالة عدم الاستقرار إلى دول المنطقة. ويعد مفهوم "الدفاع الاستباقي" ليس جديدا في قواميس العلاقات الدولية، وإنما ارتبط في جوهره بالتحركات العسكرية، وهو ما تبنته إسرائيل طيلة تاريخها في إدارة علاقاتها مع دول الجوار، حيث كانت تبادر بالهجوم على جيرانها عسكريا، في الكثير من الأحيان، تحت مظلة "الدفاع الاستباقي"، إلا أن الرؤية المصرية تجاوزت في جزء كبير منها البعد العسكري، نحو أبعاد أخرى، ارتكزت على البعد الإصلاحي، سواء سياسيا أو تنمويا، أو مجتمعيا، من أجل توحيد الداخل، وهو ما بدا في الحوار الوطني، والذي اشتمل كافة الأبعاد المذكورة، عبر تحقيق مشاركة فعلية من جانب كافة أطياف المعادلة المصرية، وتقديم نموذج يمكن احتذائه إقليميا، ليقدم مظلة من الصمود في مواجهة التهديدات. وهنا يمكننا القول بأن الحاجة إلى تعميم الرؤية المصرية القائمة على الحوار، أصبحت بمثابة حالة إقليمية، تمتد من الداخل، لتعزيز دول المنطقة في اللحظة الراهنة، والتي تتسم بحساسيتها الشديدة، مرورا بالبعد البيني "بين دول الإقليم" عبر حوار إقليمي شامل، يمكنه تعزيز خط المواجهة أمام العدوان، وحتى البعد الدولي، من خلال جبهة إقليمية موحدة، يمكنها تقديم موقف قوى أمام المجتمع الدولي، فيما يتعلق بالعديد من القضايا وأبرزها العدوان الإسرائيلي وما يرتكبه من انتهاكات، بالإضافة إلى الدفاع عن قضاياهم المشتركة، في القلب منها القضية الفلسطينية.