لا أعتقد أن النظام الإقليمى العربى واجه تحديًا بهذا القدر من الخطورة منذ أزمة غزو العراق للكويت فى تسعينيات القرن الماضي، مثل ما يواجهه اليوم. بل لا أبالغ إذا قلت إن تحديات اللحظة الراهنة تتجاوز فى خطورتها وعمق تأثيرها كل ما واجهه الأمن الإقليمى العربى من ضغوط عبر تاريخه المعاصر كاملاً. ولعل وجه الخطورة والتعقيد يكمن فى تعدد الرؤى والمشاريع الإقليمية والدولية التى يجرى طرحها لواقع ومستقبل المنطقة، فى ظل غياب مشروع عربى جامع وشامل يستطيع التصدى لتلك الرؤى غير العربية، ويقدم طرحًا بديلاً للحظة الراهنة من عمر المنطقة، ويسهم فى صياغة تصور متماسك لمستقبلها من وجهة نظر عربية قادرة على تحقيق مصالح الغالبية الكاسحة من شعوب منطقة الشرق الأوسط. وجه آخر لخطورة التحدى الراهن أن المنطقة واقعة فى قلب ساحة تنافس دولى غير مسبوق، وفى لحظة إعادة تشكل للنظام الدولى، جميع القوى الفاعلة فى هذا النظام الدولى، سواء تلك التى تسعى للحفاظ على مكانتها المهيمنة، أو القوى الأخرى التى تريد إعادة بناء النظام الدولى وتعزيز دورها فى الخريطة الجديدة للنفوذ العالمى، ترى فى منطقة الشرق الأوسط الميدان الأهم لمعركة إعادة تشكيل العالم، خاصة بعدما تراجعت وتيرة المواجهة فى أوروبا على خلفية الصراع بين روسيا وأوكرانيا. والتنافس حول المنطقة يسعى بشكل واضح إلى السيطرة على «قلب العالم» ليس فقط بحكم ما تتمتع به المنطقة من ثروات طبيعية وتأثير كبير على أمن الطاقة العالمى، لكن أيضًا من خلال الهيمنة على أهم شرايين ومحاور التجارة العالمية، فالمنطقة تتحكم فى أبرز طرق تجارة العالم بين الشرق والغرب، ويتوازى حول المنطقة مسار الخليج العربى شريان الطاقة العالمى الأهم، مع مسار البحر الأحمر الذى يمثل أهمية استراتيجية بالغة لحركة التجارة العالمية. ■■■ ومصادر التهديد التى تواجه الواقع الإقليمى العربى لا تأتى من خارجه، لكنها تتزامن مع مهددات داخلية عديدة تضاعف من مخاوف شعوب المنطقة وإدراك قادتها صعوبة وقسوة التحديات، فمعادلة القوة العربية تعانى منذ عقود نزيفًا متواصلاً فى رصيدها، بداية من خروج العراق من تلك المنظومة، مرورًا بزلزال ما يسمى ب« الربيع العربي» وتداعياته التى لا تزال متواصلة، فى سورياوالعراق والسودان وليبيا واليمن، والتحولات الراهنة فى منطقة المغرب العربي، ما يجعل معادلة القوة العربية بحاجة إلى إعادة تقييم أو بالأحرى «إعادة ترميم». ولعل ما يجرى أيضًا فى الأراضى الفلسطينية يمثل بحد ذاته تحديًا لمنظومة الأمن القومى العربي، ليس فقط لخطورة ما تقوم به إسرائيل من محاولات لتصفية القضية واقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم، وهى محاولة تبدو الأخطر والأكثر تهديدًا منذ إعلان قيام دولة الاحتلال، ولكن لأن ذلك المشروع الإسرائيلى المدعوم أمريكيًا يتجاوز مجرد محاولة للسيطرة على ما تبقى من أراضى فلسطين التاريخية، بل يسعى إلى إعادة فك وتركيب المنطقة جغرافيًا وعرقيًا وطائفيًا، بصورة تحقق أكبر حضور ممكن للوجود الإسرائيلى فى مستقبل المنطقة، وفرض واقع جديد على دول الإقليم، وبما يضاعف من معدلات نزيف معادلة القوة العربية. وبينما تترقب المنطقة والعالم مآلات التفاوض الراهن بين الولاياتالمتحدة وإيران حول مصير برنامج الأخيرة النووى، فإن المنطقة العربية ستواجه مزيدًا من التحديات فى جميع الاحتمالات، وربما تجد المنطقة نفسها أمام مستوى جديد من التصعيد لن تكون كثير من دول المنطقة - وفى القلب منها الدول الخليجية- بمأمن من تداعياته. ■■■ من هنا تأتى أهمية إعادة بناء المشروع الإقليمى العربى على أسس جديدة، تنطلق من اعتبارات المصلحة والمصير المشترك، وتقوم على أعمدة راسخة من فهم عميق لأولويات الأمن والاقتصاد فى مواجهة أزمات وعواصف إقليمية ودولية تستهدف هذين المجالين على وجه الخصوص. وإعادة بناء المشروع العربى التى أرى أن ثمة ملامح ومؤشرات على وجود إرادة سياسية بشأنها، وبخاصة فى رؤية دول وازنة فى النظام العربى وفى مقدمتها مصر ودول الخليج، لا تقوم على اعتبارات عاطفية أو رؤية رومانسية قديمة لم تستطع أن تصمد فى وجه التحولات، ولكن عبر بناء منظومة للتعاون الثنائى والجماعى يأخذ فى الاعتبار وبواقعية شديدة طبيعة ما تواجهه المنطقة من متغيرات، وكذلك وجود شبكة من المصالح المتنوعة سواء للأطراف العربية مع بعضها البعض، أو مصالحها مع دول الجوار غير العربية، إضافة إلى علاقاتها مع قوى دولية فاعلة وذات تأثير متنامٍ فى المنطقة. ومن يقرأ خطوط ومسارات التحركات المصرية فى الآونة الأخيرة سيدرك بوضوح أن القاهرة تسعى - وعبر علاقات وطيدة ومتميزة مع مختلف القوى العربية- إلى إعادة بناء رؤية جامعة جديدة لواقع ومستقبل المنطقة، ترتكز على إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية الذى تعرَّض لمحاولات اغتيال عدة، وبناء أسس جديدة للتعاون الاقتصادى فى ظل أزمات إقليمية وعالمية ضاغطة على المنطقة، وبما يضمن تقليص حجم التداعيات السلبية، بل وتعود بالنفع على مختلف دول المنطقة، سواء تلك التى تقوم بالاستثمار وتحقق عائدات وأرباحًا مجزية، أو الدولة المستقبِلة لتلك الاستثمارات. كما ترتكز الرؤية المصرية فى هذا السياق على أهمية تنسيق المواقف والرؤى العربية فى مواجهة تقلبات مواقف الإدارة الأمريكية، وعجز المؤسسات الدولية عن الفعل، وتراجع أدوار حلفاء سابقين للمنطقة، فى مقابل تعاظم أدوار قوى إقليمية غير عربية، الأمر الذى يحتم أن تكون هناك رؤية عربية متماسكة وصوت موحد إزاء القضايا التى تمثل تهديدًا جماعيًا على الأقل. ولعل النجاح المصرى فى حشد المواقف العربية وراء رفض مخططات تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وضمان الدعم العربى والإسلامى لخطة إعادة الإعمار والتعافى المبكر للقطاع دون خروج سكانه من أراضيهم، يمثل دليلاً ومؤشرًا على قدرة القاهرة - ومعها العواصم العربية الفاعلة- على صياغة مواقف جماعية قوية ترتقى لمستوى التحديات القائمة. ■■■ وفى هذا السياق تأتى الجولة الخليجية الراهنة للرئيس عبد الفتاح السيسي، والتى بدأت أمس إلى دولة قطر، وتمتد بعدها إلى دولة الكويت. هذه الجولة جزء من تحرك مصرى شامل يستهدف تنسيق المواقف مع مختلف القوى العربية، فقد سبق تلك الزيارة حضور الرئيس لاجتماع تشاورى ودى فى الرياض، ثم العديد من الاتصالات التحضيرية للقمة العربية الطارئة التى استضافتها القاهرة الشهر الماضي، إضافة إلى قمم ثنائية مع أبرز قادة المنطقة لترتيب الأوراق الثنائية والجماعية، فالرؤية المصرية تؤمن بأن المواقف الفردية تمثل خصمًا من القدرة على مواجهة تعقيدات إقليمية غير مسبوقة، وأن التحديات الكبيرة تتطلب مواقف جماعية كبيرة، ولطالما كانت مصر ملاذ العرب وقبلتهم عند الملمات، وها هى تواصل دورها الجامع لكل الأشقاء. بل إن العلاقات المصرية القطرية فى حد ذاتها تصلح ك « دراسة حالة» لقدرة القاهرة على تغليب المصلحة الجماعية العربية، والتغلب على تباينات وجهات النظر لصالح بناء علاقات قوية وتعكس مصلحة الشعوب العربية فى المقام الأول، فعقب عودة العلاقات مطلع عام 2021، يشهد التعاون المصرى القطرى نموًا مطردًا على مختلف الأصعدة، وبخاصة على المستوى الاقتصادى الذى يشهد انتعاشًا لافتًا، سواء على مستوى التبادل التجارى أو على مستوى الاستثمارات البينية، إذ بلغت الاستثمارات القطرية فى مصر 5.5 مليار دولار فى السنوات الأخيرة، وهناك فرصة واعدة لمضاعفتها فى إطار التعاون بين الصناديق السيادية فى البلدين. يُضاف إلى ذلك التعاون الوثيق بين القاهرة والدوحة فى احتواء تداعيات انفجار 7 أكتوبر وما رافقه من اندلاع للمواجهات على جبهات إقليمية عدة، وكان للجهد الوافر الذى بذلته كلتا العاصمتين أكبر الأثر فى التوصل إلى الهدنتين الوحيدتين فى قطاع غزة حتى الآن، فى نوفمبر 2023 ويناير 2025، ولا تزال تلك الجهود مستمرة فى محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه واستعادة مسار التهدئة فى إقليم مشتعل وبات قابلاً للانفجار فى ظل تصعيد غير محسوب من دولة الاحتلال. المؤكد أن الطريق نحو إعادة بناء مشروع عربى فى ظل الظروف الراهنة ليست هينة ولا مفروشة بالورود، لكن توافر الإرادة السياسية وبناء شراكات عربية ناجحة على غرار الشراكة المصرية الخليجية - وفى القلب منها العمل الناجح لتعزيز العلاقات المصرية القطرية- يجعلنا نأمل أن يكون الغد أفضل من اليوم، ومستقبل المنطقة أكثر قدرة على التعافى من جراح واقعها الراهن.