فى خضم حزن فادح خيّم على قرية صغيرة، ودّعت بناتها الثمانى عشرة إلى مثواهن الأخير، خرج الإعلامى عمرو أديب، ليعبّر عن غضبه وحزنه، وكان محقًا فى انتقاده، فقد بلغ الحزن ذروته، وفاض الغضب على حدود الصبر، ولا عذر لأحد حين تفقد البلاد زهراتها على قارعة إهمال متكرر ومعتاد. ما أثار الدهشة فى خطابه لم يكن غضبه من التقصير، بل تلك الجملة التى قالها باستخفاف مرير: «اللى مش عايز يبقى مسؤول يشتغل فى الأوبرا ويسمع حفلة كل يوم»، جملة وإن بدت جملة عابرة، فإن فى عمقها طعنة غير مبررة لكرامة المشتغلين بالفن الجاد، فإذا كان الوزير مسؤولًا عن الطرق والمصانع، فالأوبرا مسؤولة عن تشكيل وجدان وطن، وبناء وعى أمة، ولا تقل عظمة أو مشقة أو مسؤولية، ولم تكن المقارنة فى محلها، ولا المزاح فى توقيته. كان يستوجب على الإعلامى المتمرس أن يزن كلماته حين يتحدث عن مؤسسة بحجم الأوبرا، لذا جاء الرد من قامة فنية رفيعة، هو المايسترو «نادر عباسى»، فى بيان اختصر سنوات الجهد الذى يُبذل خلف الكواليس، ليضع الأمور فى نصابها الصحيح، وأوضح بلُغة مثقفة وواعية أن الفن ليس ترفًا، بل مشروعًا حضاريًا يقف خلفه جيش من المتخصصين، بدايةً من إدارة المسرح، وانتهاءً بالأداء الفنى الراقى الذى لا يأتى إلا بعد سنوات من الدراسة والتدريب والإخلاص، قدّم المايسترو درسًا بليغًا فى الرقى والوعى، دون أن يرفع صوته أو ينفعل، فالفنانون الحقيقيون لا يحتاجون إلى السخرية أو الضجيج، يكفيهم أن ينقروا على أوتار الحقيقة، وهو ما فعله حين قال: «الأوبرا هى التى تربى ذائقة الناس، وتصنع شعبًا قادرًا على الحوار والتعايش». فى تقديرى، يجب أن يعتذر أديب عن هذه الزلة، فالاعتذار لا ينقص من قدر صاحبه، بل يرفعه، والجرأة لا تكون فقط فى مواجهة المسؤولين، بل أيضًا فى مراجعة النفس، وتقدير الخطأ، ومسؤولية الكلمة لا تقل عن مسؤولية الطريق، ومن يهدم الوعى لا يقل خطرًا عمن يهمل الأرواح على الطرقات، فالبلاد التى تبنى الكبارى وتقيم المصانع، تحتاج أيضًا إلى من يغرس الذائقة فى الوجدان، ويزرع القيم فى العقول، ومن يستخف بالأوبرا يستخف بجمال الوطن، وبذاكرته الثقافية، ومن لا يرى فى الفن مسؤولية، فلن يرى فى الإنسان قيمة، وفى كلتا الحالتين، المسؤولية واحدة، لكنها لا تحتمل السخرية.. فمن لا يملك شجاعة الاعتذار، لا يملك شرف الكلمة.