ويبدو أننا بالمأكولات العصرية بصدد إحياء وتأكيد مقولة طبية «المعدة بيت الداء»، وفى الوقت ذاته سنودع مقولة شعبية تقول «أقرب طريق لقلب الرجل معدته» عبر الواتس من الصديق القارئ المحب للثقافة ابن قريتى - محمد السيد المنغم وصلتنى هدية من التى تسر خاطر عشاق القراءة. ◄ الجمعة: ◄ هدية مقبولة إنها مقالة عمرها 88 عاماً كاملة للأديب أحمد حسن الزيات، نشرها فى مجلته الأشهر «الرسالة» عام 1937، يتحسر فيها على الأدب ويسميه آنذاك أدب الساندوتش!.. باعتبار الساندوتش وقتها كان صرخة تهدد الأكل التقليدى، كما هدد الأدب «الساندوتش» وقتها ذائقة القراء والأدباء، فما بالنا به الآن وقد صار حاكماً لغذاء الصغار وكثير من الكبار، وامتلأت نسخته العصرية بمسميات مختلفة؛ فتارة هى»الدليفرى»، وأخرى هى «كويك ميل»، وثالثة هي»تيك أواى»، فضلاً عما قد يستجد من مسميات يفرضها التطور التقنى المطرد بسرعة الفيمتو ثانية.. صارت تلك المسميات فى عصرنا هى الحاكمة لغذاء غالبية الشباب وبعض الكبار، بعدما بات «التيك أواى» بأوراقه وأطباقه الحرارية، ومكوناته البهاراتية الخادعة، هو السيد، وسائق الموتوسيكل الذى يأتى ب»الدليفرى» و»التيك أواى» هو كلمة السر. ولو قادك الفضول مثلى لأحد محلات سلاسل الأكل الجاهز الشهيرة بتنوع أشكالها وجنسياتها، لرأيت عالماً موازياً للعالم المنزلى يفوقه إثارة، ويمتلئ غرابة، ويستهلك أرقاماً خيالية من الإنفاق، يدفع فيها الساعى إلى هناك، أو الطالب منها بتلك الوسائل، أرقاماً تمثل خيالاً لدى أجيالنا المتحفظة، بل لو كانت تكلفة «وجبة دليفرية» مطروحة لوجبة منزلية عائلية لشهقت منها الميزانية المنتهكة، كما تشهق طابخة الملوخية على طبختنا المصرية الفريدة!. ◄ السبت: ◄ الكويك ميل يكسب! صار من بقايا الماضى، والأسئلة البيتوتية الموروثة، سؤال الأم لأفراد أسرتها: عايزين تاكلوا إيه النهاردة؟ نعم بات هذا السؤال فى كثير من البيوت حولنا سؤالاً غير ذى فائدة أو وجود، فلماذا تتعب الأم نفسها وتبذل جهداً كبيراً خاصة إذا كانت امرأة عاملة للتفكير أولاً فى قائمة طعام اليوم، وثانياً فى شراء تلك المستلزمات وتجهيزها وطهوها، ثم تفاجأ مساء بالابن الأكبر مثلاً وقد جاء وفى يده لفافة من أى صنف جاهز من الأكلات السريعة له ولغيره، إن كان هناك غيره، ثم يقول لأمه إنه لن يتناول ما طبخته من طبيخ، ويتشمم شقيقه الأصغر ما بيد شقيقه الأكبر، وما تفوح منه من روائح البهارات، ليقرر هو الآخر أن يسير على خطاه، ويمتنع عن طبيخ أمه الذى يسبب له الحرقان فى المعدة، وأحياناً عسر الهضم كما يتحجج الهاربون من طبيخ المنزل ويبقى الطبيخ المرهق لربة المنزل ولميزانية البيت من نصيب الأب والأم ليأكلاه وحدهما، ويذوقا وبال اختيار الأبناء الذين باتوا أسرى لل«كويك ميل» أو «الدليفرى»!.. ◄ الأحد: ◄ بين الحياة والأدب أعود إلى مقال الزيات لنقرأ معاً هذا الجزء عن «أدب الساندوتش»: «لعلك تقول لنفسك سائلاً أو هازلاً، ما علاقة الأدب بالساندوتش؟، هذا الضرب من الطعام القائم على القطف والخطف جنى على الأسرة، فحرمها لذة المؤاكلة ومتعة المنادمة وأنس العشرة؛ وجنى على المائدة فسلبها فنها الطاهى وذوقها المنظم وجلستها البهيجة؛ وجنى على الصحة فأضعف الشهوة وأفسد الهضم ونقص العافية. والثقافة الأدبية اليوم لا تختلف فى سرعتها وتفاهتها وفسادها عن هذا النوع الجديد من الأكل، فهى نتفات من الكتب، ولقفات من الصحف، وخطفات من الأحاديث، ومطالعات فى القهوة أو فى الترام أو فى السرير، يلقط الكلم فيها النظر الخاطف، كما يلقط الحب الطائر الفزع، ثم نتاج مختصر معتسر كجنين الحامل أسقطته قبل التمام، وصراخ مزعج فى أذنى هذا السقط ليستهل وهو مضغة من اللحم المسيخ لا تشعر ولا تنبض، وأصبح مآل غرفة المكتب فى البيت كمآل غرفة الطعام وقاعة الجلوس فيه، بغى عليها ساندوتش الصحيفة، كما بغى على هاتين ساندوتش البار والقهوة»، وأكتفى بهذا القدر من المقال الذى يمكننا ببساطة أن نضيف إلى لفظ ساندوتش لفظ «التيك أواى»، أو «الدليفرى»، أو «كويك ميل»، ليستقيم الأمر مع لغة عصرنا بنفس أمراض الماضى، بل أنكى وأشد!. ويبدو أننا بالمأكولات العصرية بصدد إحياء وتأكيد مقولة طبية: «المعدة بيت الداء»، وفى ذات الوقت سنودع مقولة شعبية تقول: «أقرب طريق لقلب الرجل معدته»، فالأكل البيتى والصنعة المتميزة تعانى سكرات الضياع فى عصر «الدليفرى» و»التيك أواى» و»الكويك ميل»!. ◄ الاثنين: ◄ البهلوانات والمحمول من أبرز ما تراه عيناك وأنت تتجول فى الشوارع، أو تركب حافلة تقلك من مكان لآخر، أن ترى كيف صار الناس اليوم أصحاب مهارات متعددة فى وقت واحد!.. نعم مهارات متعددة أشبه بمهارات البهلوان، والفضل فيها للساحر المحمول بين أياديهم يأخذ بتلابيب تركيزهم!.. رأيت أحدهم يحمل قفص العيش فوق رأسه، وفى لحظة خاطفة، امتدت يده ليلتقط جهازه المحمول من جراب معلق بمقود الدراجة، بعد أن دقت رنات مكالمة تطلبه، وصار لا يكاد يجد يداً ليسند بها القفص للحظات، ويقود الدراجة بيد واحدة، ويمسك بالمحمول باليد الأخرى ليرد على تليفون صاحب الفرن، أو لعله كان يطلب صاحبه كى يتفق معه على فسحة السهرة!.. هذا الراكب للدراجة الممسك بمقودها بيد واحدة، تتحكم فى سرعة واتجاه الدراجة، وفوق رأسه قفص من الخبز يأكل الناس منه، لم يستنكف أن يستعمل المحمول وسط زحام الشارع بالتكاتك والمارة والسيارات وباعة الخضار والفاكهة، بل يتفاعل مع المكالمة بالعصبية أو ضحكاً وقهقهة بصوت عال.. طبعاً كانت المكالمة مجرد لحظات كادت توقع بالراكب «البهلوان»، وقفص العيش، وتطرحه أرضاً فى الشارع المكتظ، الذى كان سيعانى الأمرّين فى توفير مكان لسقوط العجلة براكبها بقفص العيش، ولطف الله بالشارع والمارة وعربات الفاكهة والخضراوات، فقد أمسك الراكب عن لعبة الحاوى التى مارسها، ووضع محموله فى الجراب المعلق بمقود العجلة، ومضى لحال سبيله. المحمول جعل من الناس أشبه بالحواة، يمارسون عدة أعمال فى وقت واحد؛ سواء من كان منهم سائراً يلصق محموله بصدغه، ويميل بصدره للأمام مغمضاً عينيه أو إحداهما عن الطريق، وسائراً بإحساس أقدامه بالطريق، لا يكاد يعتدل إلا لاصطدامه بسائر يقابله أو كلاكس سيارة غاضب يطلقه سائقها تنبيهاً للسائر نائماً ومخدراً، فما بالنا حين يفعل ذلك من يقود دراجة نارية منطلقة وسط الزحام، ومحموله بين صدغه وكتفه، يحكمه الاثنان بدلاً من يد السائق، أو توكتوك أو سيارة فى نهر طريق للسيارات، أو صاعداً كوبرى، أو هابطاً آخر، أو حتى على الطريق الزراعى؟!.. لقد شاهدت بعضهم وهو يقود دراجته النارية أو سيارته يبطؤ فيبطئ من خلفه اعتقاداً بزحام الطريق، فإذا تجاوزته بسيارتى، أو بالأتوبيس الذى أركبه، وجدته مشغولاً فى مكالمة مرئية مع أحد معارفه!.. يقود ويتحدث وكاميرا المحمول مفتوحة، ليشاهد من يحادثه أو من تحادثه، ويريهما مهارته فى القيادة والكلام والتفاعل فى ذات الوقت، وبالطبع أغلب من يفعلون ذلك من الشباب الذين ولدوا مع ولادة المحمول، وكبروا وتطوروا مع تطور إمكانياته التقنية، وتعايشوا مع سحر تلك الإمكانيات؛ غير أن الأنكى هو محاولة بعض الكبار الستينيين مجاراة شباب العشرين، أو صبية العاشرة من عفاريت التوكتوك، وفى كلٍّ صعوبة فى حدود الاستحالة أن يجارى كل منهم أجيالاً تبتعد عنه صغراً أو كبراً، فكل منهم قد لا يعى أنهم ولدوا لزمن غير زمنه، كما أنه نفسه قد ولد لزمن غير زمن سابقيه وأسلافه. ◄ الثلاثاء: ◄ راقبوهم صار العالم قرية صغيرة، إذا ما ابتدع أو صاح أو أحدث منها شارع هنا أو زقاق هناك تداعت له بقية الشوارع والأزقة بالاستجابة والتأثر والتقليد صماً وعمياناً.. الخوف على أشبالنا الصغار فى عصر ذوبان الهوية، والمسئولية الكبرى على الوالدين بالمراقبة وعدم الإتاحة المطلقة لأجهزة المحمول بلا ضابط أو رقابة على ما يشاهدونه أو يمارسونه.