فى خضم المواجهة المستمرة بين إسرائيل وإيران، يبرز التناقض الأوروبى بوضوح فى المشهد الدبلوماسى والعسكري، حيث يرفع قادة الاتحاد الأوروبى شعارات التهدئة وخفض التصعيد، بينما تتخذ بعض الدول الأوروبية الكبرى خطوات عسكرية وأمنية تثير التساؤل عن حقيقة الموقف الأوروبي، وعلى رأسها بريطانيا. فقد التقى وزراء خارجية الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) نظيرهم الإيرانى عباس عراقجى الجمعة فى جينيف بسويسرا على أمل إيجاد مسار للعودة إلى الدبلوماسية بشأن برنامج طهران النووي، فيما أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أنه أرجأ اتخاذ القرار بشأن انضمام بلاده إلى الضربات الإسرائيلية ضد إيران لمدة أسبوعين. اقرأ أيضًا | وزير الخارجية الأمريكي يبحث مع نظيره القبرصي التطورات الإقليمية وقبل اللقاء نسق وزراء الخارجية الأوروبيون مع وزير الخارجية الأمريكى ماركو روبيو للضغط على وزير الخارجية الإيرانى لتأكيد أهمية العودة إلى طاولة المفاوضات لتجنب المزيد من التصعيد. وبعد اللقاء، صرّح وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، بأن «الموقف واضح، إيران لا يمكنها امتلاك سلاح نووي». وأشار إلى حرص وزراء خارجية الدول الأوروبية على مواصلة «المناقشات الجارية» بشأن المفاوضات مع إيران. وقال لامي: «نحثّ إيران على مواصلة محادثاتها مع الولاياتالمتحدة»، مضيفًا أن «هذه لحظة خطيرة»، ومن «الأهمية القصوى» ألا نشهد تصعيدًا إقليميًا للنزاع بين إيران وإسرائيل. وذكرت مصادر مطلعة على المحادثات أن الأوروبيين حثوا إيران على الحوار دون انتظار انتهاء الهجمات الإسرائيلية. ومن جانبه، قال عباس عراقجى وزير الخارجية الإيرانى للصحفيين إن إيران «مستعدة للنظر مرةً أخرى فى الدبلوماسية بمجرد وقف العدوان» و«محاسبة المعتدى على الجرائم البشعة التى ارتكبها». وكانت المفاوضات بين طهرانوالولاياتالمتحدة قد انهارت عندما شنت إسرائيل ضربات على المنشآت النووية الإيرانية وقدراتها الباليستية فى 12 يونيو الجاري. ولا شك أن الملف النووى الإيرانى يمثل أحد محاور الاهتمام الأوروبى منذ سنوات، وقد ساهمت أوروبا تاريخيًا فى هندسة الاتفاق النووى لعام 2015، لكن الحرب الحالية أضعفت فرص العودة إليه. فى الواقع لا تبدو أقوال الأوروبيين فى هذا النزاع مثل أفعالهم، ففى الوقت الذى طالبت فيه بريطانياإيران وإسرائيل بخفض التصعيد، وكثفت نشاطها الدبلوماسى لاحتواء الأزمة، سارعت إلى نشر مقاتلات «تايفون» فى قواعدها العسكرية بقبرص، تحت غطاء حماية الملاحة فى الخليج، فيما لم يستبعد رئيس الوزراء البريطانى كير ستارمر مشاركة المقاتلات البريطانية فى الدفاع عن إسرائيل من خلال المشاركة فى صد الصواريخ التى تطلقها إيران صوب الدولة العبرية. كما انتشرت وحدات بحرية بريطانية فى بحر العرب ضمن عمليات دفاعية تعكس استعدادًا للتدخل فى حال تطورت الحرب، خصوصًا مع التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز أو استهداف منشآت إسرائيلية فى البحر الأحمر. ويأتى ذلك فى الوقت الذى أشارت فيه تقارير استخباراتية متعددة إلى تنسيق مباشر مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل فى رصد تحركات الفصائل الموالية لإيران فى لبنانوالعراق واليمن. وعلى المستوى الأوروبى الأوسع، تُظهر مواقف العواصم الرئيسية تناقضا أيضا، ففرنسا التى تحاول إعادة إحياء دورها كوسيط، عبر دعوات دبلوماسية متكررة لوقف إطلاق النار، تمارس الضغط على إيران للعودة إلى طاولة المفاوضات مع الأمريكيين ولا تمارس ضغطا مماثلا على إسرائيل لوقف ضرباتها ضد إيران. أما ألمانيا، فتكتفى بتصريحات متوازنة ظاهريًا، لكنها فى الواقع تكرر رواية إسرائيل حول «حقها فى الدفاع عن النفس»، وتميل إلى دعم السياسات الأمريكية التى تحمل إيران مسئولية زعزعة الاستقرار الإقليمي، بل وصرح المستشار الألمانى فريدريش ميرتس بأن «إسرائيل تقوم بالعمل القذر نيابة عنا فى إيران». وهكذا فى الوقت الذى تحاول فيه أوروبا تقديم نفسها على أنها وسيط «نزيه ومحايد» أدت مواقفها «المائعة» والتى تميل بوضوح نحو السير وراء الموقف الأمريكى إلى تقويض أى دور أوروبى جماعى قادر على الوساطة المحايدة والنزيهة، وأكدت هذه المواقف مرة أخرى تراجع نفوذ الاتحاد الأوروبى كقوة وازنة وفاعلة فى الشرق الأوسط. ويرى المراقبون أنه من الصعب على الحكومة الإيرانية أن ترى فى الدول الأوروبية وسيطا محايدا وهى التى اعتمدت مؤخرًا سلسلة من العقوبات ضد طهران، ركزت على شخصيات عسكرية مرتبطة بالحرس الثوري، وكيانات يُشتبه فى علاقتها ببرامج الطائرات المسيّرة أو الصواريخ الباليستية. وذلك فضلا عن تصاعد بعض الأصوات داخل البرلمان الأوروبى التى تدعو لتصنيف الحرس الثورى منظمة إرهابية، وهى خطوة لا تزال محل خلاف داخل المجلس، خوفًا من ردود فعل إيرانية قد تطال مصالح أوروبية فى المنطقة، خاصة فى العراقولبنان. وفى الواقع أن الإيرانيين لا يرون فى أوروبا «وسيطا محايدا» فحسب، بل وحذرت طهران المملكة المتحدة وفرنسا إلى جانب الولاياتالمتحدة من أن قواعدها وسفنها فى المنطقة ستكون مستهدفة إذا ساعدت فى وقف الهجمات الإيرانية على إسرائيل، وهنا يطرح السؤال نفسه وهو هل للأوروبيين قواعد فى الشرق الأوسط يُمكن لإيران أن تهاجمها؟ والإجابة هى نعم هناك وجود عسكرى بريطانى وفرنسى فى المنطقة. وجود القوات الأوروبية، وخاصة البريطانية، فى المنطقة ليس جديدًا، لكنه اتخذ منحى تصاعديًا منذ تصاعد التوتر بعد عملية «طوفان الأقصى» التى شنتها حماس ضد إسرائيل فى 7 أكتوبر من عام 2023. وبحسب صحيفة الإندبندنت البريطانية فإنه لبريطانيا وجود عسكرى دائم فى أماكن عديدة فى منطقة الخليج والقاعدة الرئيسية لبريطانيا فى المنطقة هى قاعدة أكروتيرى الجوية الملكية فى قبرص، والتى تضم عددًا من الطائرات المقاتلة. أما الوجود الفرنسى فى الشرق الأوسط فإنه يتركز بشكل رئيسى فى قاعدة الظفرة الجوية فى الإمارات العربية المتحدة، حيث تتمركز قوة عسكرية دائمة هناك. وفى ظل تصاعد العمليات، وإصرار الجانب الأوروبى على تبنى الموقف الأمريكى المطالب بالحوار دون انتظار انتهاء الهجمات الإسرائيلية، تتكرس حالة من التبعية السياسية والعسكرية لواشنطن، مما يضعف من قدرة أوروبا على التأثير فى توازنات المنطقة، ويجعلها طرفًا هامشيًا فى معادلة دولية تتشكل من جديد. فمن الناحية السياسية، تجد أوروبا نفسها اليوم فى مأزق، فهى من جهة غير قادرة على التخلى عن تحالفها مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل، ومن جهة أخرى عاجزة عن لعب دور متوازن يحمى مصالحها فى الشرق الأوسط، وهذا المأزق ينعكس فى ضعف تأثيرها السياسي، وتراجع صورتها كقوة قادرة على فرض حلول سلمية. ومن الناحية الاقتصادية، يُعرض استمرار الحرب أوروبا لمخاطر اقتصادية مباشرة، خاصة على صعيد الطاقة، إذ تعتمد دول كألمانيا وإيطاليا على النفط والغاز من الخليج، وترى فى استقرار الملاحة فى مضيق هرمز مسألة حيوية، مما يدفعها إلى التورط ولو بشكل غير مباشر فى الصراع.