فى محطة وصول الملك، قرأتُ فى عينى المهندس مشاعر غامضة، دفعتْنى أن أطرح عليه سؤالًا، أدى إلى انهمار الدموع من عينيه بغزارة، ولن أذكر السبب الآن! كرات ثلج كلامية! الجمعة: الإنسان حيوانٌ ناطق. مقولة قديمة ظلّت متداولة إلى أن أحيلت للتقاعد، أمام طغيان عبارات أخرى، ربما لأنها لم تعد صالحة للاستهلاك الآدمى، أو لأنها باتت حقيقة مُسلّمة لا داعى لتكرارها. شخصيًا أميل إلى الاحتمال الأخير، لأن الأمر الواقع صار يفرضها فى كل مناسبة مُدرّة للجدل. اليوم، عادت ماكينات ضخ الكلام للعمل بطاقتها القُصوى. وها هو اليقين الكاذب يفرض سطوته، مئات التعليقات تنطلق فى فضاء ثرثرتنا، حول القصف الصهيونى لإيران، على المقاهى وفى الزيارات العائلية ومنصات التواصل الاجتماعى. ألوذ بالصمت رغم قُدرتى على تصنيع فرضيات وتحليلات تتجاوز حدود «كلام فارغ» كثير أسمعه. أتابع الأحداث بصمتٍ مُلبّد بالشكوك، فآلات الدعاية قادرة على تزييف أية وقائع، غير أن الآراء التى تنطلق بكثافة، تتنامى وتكبر مثل كرات الثلج، بل إنها تبدو فى بعض الأحوال أكثر برودة منها، بينما أحاول التسلّح بالبرود كى لا يرتفع ضغطى. اعتدتُ التعامل مع التفاهات، باعتبارها شرًا لابد منه، لكن الحماقة المطلية بمسحوق المنطق الزائف ترهقنى، خاصة عندما تنحاز إلى عدوٍ غاشم على حساب دولة تعرضتْ للعدوان، والغريب أن هناك من يمضى عكس الاتجاه، ويتحامل على إيران تحت عباءة مذهبية! ويتناسى هؤلاء أن الواقف على الطرف الآخر شيطان يستلذ بوحشيته، ومن لم يقتله القصف فى غزة، تلتهمه حروب الجوع، أو مصائد مساعداتٍ تحولت إلى مجازر جماعية. لكل ما سبق، قمتُ بحملة إبادة جماعية، وحظرتُ أصدقاءً افتراضيين كثيرين، حتى لا يُصبح أحدهم مثل الدبة التى قتلتْ صاحبها، الذى هو أنا. خاصة أن كلمات البعض صارتْ أكثر ثِقلًا على قلبى من كتل الصخور الضخمة. زيارة تأخرّت كثيرًا السبت: لستُ من هواة الطُرق السريعة، التى تمنح المتعجلّين فرصة الهروب من الزحام. أتجنّبها قدْر الإمكان فى زياراتى لعواصم أخرى، لأن هذه الطُرق تسلبنى متعة الالتحام بتفاصيل المدن من البشر والمبانى، فتهدد مشاعرى بالسير عكس الاتجاهات المحددة لها. الأمر يختلف فى القاهرة، حيث أطلب غالبًا حق اللجوء إلى الطريق الدائرى، إذا رأيتُ أنه يوفّر لى بعض الوقت، خاصة أن الزحام يلتهم شوارع المدينة أغلب ساعات الليل والنهار. تمضى السيارة من مقر الجريدة، لتقطع المسافة بين أحياء شعبية وأخرى راقية، وها هى تصل إلى «الدائرى» من مطْلع ميدان لبنان، فى طريقها إلى المتحف الكبير. أزوره لأول مرة، مما أثار دهشة المحيطين بى، الغريب أن عدوى الاستغراب انتقلت إلىّ، وتساءلتُ عن أسباب تأخير الزيارة، رغم أننى عايشتُه منذ كان مجرّد فكرة. وصاحبتُ الملك رمسيس فى رحلته إليه قبل تسعة عشر عامًا، والموقع لا يزال أرضًا بكرًا بلا منشآت. عمومًا أن تأتى متأخرًا خيرٌ من ألا تصل أبدًا. تحت ضغط الإحراج غالبًا، وافق زميلى محمد ناصر على مصاحبتى. قاد السيارة بطريقة أراها مُتهورة، بينما ينفى عن نفسه تُهمة التهور، ويقول إنه يقود بسرعة فقط، والتسرّع من وجهة نظرى سمة شخصية تمتد إلى معظم أبناء جيله، لكن جرعته زائدة نسبيًا عند ناصر. المهم أن اندفاعه أوصلنا لهدفنا فى نصف ساعة فقط.. لأبدأ رحلة أخرى مع الانبهار. قبل سنوات زرتُ متحف اللوفر، وبطبيعة الحال قضيتُ معظم الوقت فى القسم المصرى الحافل بالكنوز، واستمتعتُ بشرح صديقى العالم الكبير الدكتور ممدوح الدماطى وزير الآثار الأسبق. وأستطيع أن أؤكد أن المقارنة لصالح متحفنا الكبير، الذى يُعد أعظم من اللوفر، ليس انحيازًا وطنيًا بل وجهة نظر متجردة، بدليل أن انطباعى كان لصالح المتحف الفرنسى، عندما زرته بينما المتحف الكبير لا يزال تحت الإنشاء. أعتقد أن هذه الرؤية لا تخصنى وحدى، فعندما نشرتُ صور الزيارة مع شرح مختصر ومتحفظ، وصلتْنى رسالة من العالم الكبير الدكتور زاهى حواس قال فيها: «لا يوجد متحف فى العالم بهذا الجمال أو الحجم». وهى شهادة معتمدة من رجل طاف معظم المتاحف على سطح الكوكب. أمام الدرج العظيم وقفتُ متأملًا. التصميم المتدرج نحو الأعلى يحاكى الرحلة نحو الأبدية، يستقبلنا فى بدايتها تمثال رمسيس الثانى الضخم. أنظر إليه بحنين له ما يبرره، فقد صاحبته ذات زمان فى رحلة امتدت لعدة شهور. رغم فقدانى حاسة الانبهار منذ سنوات، إلا أن المشهد يبهرنى بكل تفاصيله، التصميم ومسار الزيارة الذى يسمو بروحى إلى الأعلى كلما علا السلم المتحرك، ومنظر الأهرامات فى نهاية الدرج العظيم، والاثنتى عشرة قاعة على اليسار، بما تضمه من قطع فريدة تعبر عن مختلف العصور، وحتى الفكرة المتميزة للمصعد، المكون من كابينة زجاجية تنساب بمحاذاة السلالم الكهربائية، فتمنح راكبها القدرة على كشف المتحف ومقتنياته فى رحلتى الصعود والهبوط. كل الأمور تمنحنى طاقة إيجابية، خاصة الإقبال الشديد قبل الافتتاح الرسمى الذى تأجل بسبب أوضاع المنطقة، بالإضافة إلى جانب شخصى، فلى مع مقتنيات كثيرة ذكريات ممتدة، حتى تلك الموجودة فى قاعة الملك توت عنخ آمون التى كانت مغلقة خلال الزيارة. الذكريات لا تخلو من الإثارة، فقد ارتبطتْ بحملات صحفية شائكة، فضلًا عن مشاعر حب من طرف واحد تجمعنى بعدد منها! بالتأكيد لا تنتظروا منى أن أرويها الآن! رحلة مع الملك الأحد: لا تزال التعليقات تتوالى، على صورى فى المتحف التى نشرتها على «فيس بوك»، معظمها تُحفزنى على حكْى قصص، وعدتُ فى المنشور أن أرويها. من بين الصور تستوقفنى صورة الملك رمسيس، وأعود بذاكرتى إلى الوراء. فى ليلة صيفية، تنتمى لشهر أغسطس 2006، قابلتُ صديقتى المخرجة المتميزة راندا توفيق فى ميدان رمسيس. كل منا يركب سيارته وقد استعد بذخيرة تكفيه لليلة طويلة، سوف نقضيها فى موكب الملك، بعد ليلتين أخريين فى الشهور السابقة، صاحبنا فيها «بروفات» عملية النقل، وأذكر أن مهندسى شركة «المقاولين العرب» طلبوا مساعدتى فى إحدى الليلتين عدة مرات، نظرًا لأن سيارتى كانت تسير مباشرة خلف المقطورة الضخمة، التى تحمل كتلًا حجرية مماثلة لوزن التمثال العملاق. كنتُ أقوم بمهمة مزدوجة: كتابة فيلم وثائقى للتليفزيون المصرى حمل عنوان «الرحلة»، وإعداد تغطية لمجلة أخبار النجوم، حيث كنتُ أعمل وقتها. قبل الرحلة الأخيرة بأسابيع حللتُ ضيفًا دائمًا على الدكتور زاهى حواس فى مكتبه، أحصل منه على المعلومات، وأطرح وجهة نظرى فى نقاط يستمع إليها بحماس. فى نهاية الرحلة، وبعد أن شعرنا بالإطمئنان على استقرار الملك فى موضعه بسلام، سجّلنا مع كثيرين، من بينهم الدكتور حواس، والمهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس إدارة شركة «المقاولون العرب» التى توّلت عملية النقل بحرفية حظيت بإشادات عالمية، وكذلك المهندس أحمد حسين الذى ابتكر فكرة فريدة للنقل. فى محطة وصول الملك، قرأتُ فى عينى المهندس مشاعر غامضة، دفعتْنى أن أطرح عليه سؤالًا، أدى إلى انهمار الدموع من عينيه بغزارة، ولن أذكر السبب الآن! حكايات تلك الليلة كثيرة لكن روايتها مؤجلة، نظرًا لضيق المساحة، وأيضا من باب تشويقكم لحواديت سأرويها فى المستقبل.. اعتبروا ما سبق مجرد «برومو» على طريقة الترويج لأفلام السينما! ثرثرة لا محل لها من الإعراب! أقصر مسافة بين نقطتين، هى خط مستقيم يربط الإنسان بمن يهوى، والهوى منحة لا يعرفها من أدمنوا رتابة الطرق الدائرية، أو السير عكس اتجاه المشاعر!