سامي أبو بدر تمايَز المصريون كجنس بشري عن بقية الأجناس الأخرى، وسكنوا الأرض المعروفة في اللُّغة العربية ب(مِصر)، وفي أغلب اللغات الغربية باسم (إِيجِيبت/ Egypt) المشتقّ من (إيجِيبتُوس) الذي أطلقه عليها اليونانيون، ومنه أيضًا اشتقت كلمة (قبط) لتصبح عَلَمًا على أهلها، بينما كان (كِيمِتْ) أول اسم يُطلق عليها, ومعناه: الأرض السوداء، أي الخصبة. وتُصنَّف مصر كواحدة من أقدم الدول المركزية في التاريخ -أو أقدمها بحسب مصادر عديدة- توفَّرت لها عناصر الدولة الأساسية: أرض، وشعب، ونظام سياسي، ويُعتبر شعبها من أوائل الأمم الموَحَّدة داخل دولة معروفة بحدودها الجغرافية، وكان توحيد قُطرَيْها الشمالي والجنوبي على يد الملك مِينا نارمَر عام 3200 قبل الميلاد تتويجًا لجهود سابقة في سبيل الهدف ذاته، وانعكاسًا لنُضج الشخصية المصرية واتضاح ملامحها. اللغة المصرية القديمة وتطوُّر خطوطها وكما كان للمصريين منذ فجر التاريخ أرض واحدة ونظام سياسي؛ كانت لهم لغتهم الخاصة بهم، وكشأن كل اللغات بدأت شفهية غير مكتوبة، ثم كُتبت في أول شكل لها على هيئة صور ورموز ونقوش أُطلق عليها لاحقًا الكتابة الهِيروغليفيَّة، وتعني: النَّقش المقدَّس، ويُؤرَّخ لِأول تدوين لها مُكتَشف حتى الآن بالفترة بين عامي 3400 و3300 قبل الميلاد، في عصر الإمارات المنفصلة، ويؤكد الباحثون أن بلوغها هذا النَّسق في ذلك الوقت لابد أن يكون نتيجة جهود ابتكار وتطوير استغرقت قرونًا سابقة عليه، ثم لصعوبة النقش الهيروغليفي ابتكر رجال الدِّين بديلًا عنها رموزًا مُبسَّطة تعبر عن الأصوات والمعاني ذاتها؛ اختصارًا للوقت والجهد في التدوين، عُرفت بالكتابة الهيراطيقيَّة، ووُصفت بالمقدسة أيضًا؛ نظرًا لاستخدامها أساسًا في كتابة النصوص الدينية، ثم بين عامي 800 و700 قبل الميلاد خلال الفترة الانتقالية الثالثة؛ تحوَّلت إلى شكل جديد عُرف بالكتابة الدِّيموطيقيَّة، التي وُصفت بالشعبية؛ لكونها استخدمت رموزًا أكثر يُسرًا واختصارًا عن الشكلين السابقين، ثم تطورت تدريجيًّا إلي ما عُرف بالكتابة القِبطيَّة، أو الخط القبطي، نسبة للقِبط شعب مصر. الخط القبطى الخط القبطي رسم استحدثه المصريون القدماء لكتابة لغتهم، اعتمدوا فيه على الحروف اليونانية اللاتينية بشكل أساسي، إلا أنه لم تتضح صورته المثالية إلا في العهد الروماني الذي بدأ سنة 30 قبل الميلاد، وتُعد البردية المصرية القديمة المحفوظة في متحف مدينة (هَايْدِلْبِرِجْ) الألمانية برقم 414، أقدم وثيقة تُؤرخ لظهور الخط القبطي، وهي عبارة عن قائمة لمفردات قبطية وما يقابلها باليونانية، كتبها مصريون، تعود إلى منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، ما يعني أن المصريين كتبوا الخط القبطي ذا الحروف اللاتينية قبل ضَمِّ الرومان لمصر، ثم مع ظهور الديانة المسيحية في الإسكندرية منتصف القرن الأول الميلادي واعتناق أغلب المصريين لها خلال قرنين تاليَين؛ بلغت القبطية أوج قوتها، وأصبحت اللغة الرسمية للدولة والشعب. الكتابة القبطية التي اصطُلح على تسميتها باللغة القبطية، اقتبس المصريون حروفها من الأبجدية اليونانية البالغ عددها آنذاك 25 حرفًا، وأضافوا إليها سبعة أحرف من الخط الدِّيموطِيقي المصري تُعبِّر عن أصوات في اللغة المصرية لم تكن موجودة في اليونانية، ليصبح مجموع الحروف القبطية 32 حرفًا، كُتبت بها اللغة المصرية القديمة في تطورها الخَطِّيِّ الأخير، الذي طرأ على شكل الخط لا على الأصوات أو معانيها، وجدير بالذكر والتأكيد أن المصريين –خاصة الكهنة- ظلُّوا لفترات طويلة لاحقة يكتبون بالخطوط التي سبقت الخط القبطي إلى جانب الكتابة به، ومما يؤكد ذلك أن آخر نقش هيروغليفي عُثر عليه يعود تاريخ نقشِه إلى عام 394م، على جدار في معبد (فِيَلَة) بأسوان جنوبي مصر، ويُعرف باسم جِدارية إِسْمِثْ أَخُومْ، كما أن آخر ظهور للخط الديموطيقي جاء في نَصٍّ منقوشٍ على جدار المعبد ذاته دُوِّنَ عام 452م، لكن الخط القبطي انتشر مع مرور الوقت في جميع أنحاء مصر، حتى انفرد بكونه الخط الوحيد للكتابة، ولِما تبوَّأه من المكانة الرفيعة؛ أصبح يُعرَّف باللُّغة القبطيَّة لا الخط القبطي، ومضى يحفظ للمصريين ثقافتهم وحضارتهم، وخصائص هويتهم، وبه بلغت اللغة المصرية مرحلة من القوة والازدهار استمرت حتى دخل العرب مصر عام (641م)؛ ليتعرف المصريون حينها على لغة جديدة لا علاقة لها بلُغتهم، ولا بأيٍّ من أصولها أو أشكالها في مراحلها المختلفة، ولتصبح العربية -فيما بعد- اللغة الثانية التي يتحدث بها المصريون، وخامس الخطوط التي يكتبون بها. الانحسار التدريجى لِلُّغة القبطية إذن؛ كانت القبطية لغة المصريين إبَّان الفتح الإسلامي، وقد ظلت لغة أهلها الأصليين، حتى مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، ورغم ترحيبهم بالدِّين الجديد واعتناق أعداد كبيرة منهم له؛ إلا أنهم لم يتخلَّوا عن لُغتهم لاعتبارها أحد أهم مكونات هويتهم، وقد وقفت عائقًا كبيرًا أمام الحكام العرب في التعامل مع المصريين؛ لذا فقد جرَت محاولات عديدة لنشر العربية بينهم، كتسريح بعض الموظفين المصريين من مؤسسات الدولة، وتعريب الدواوين بأمر من الوالي عبد الله بن عبد الملك بن مروان سنة 706م، ثم دعوة الخليفة العباسي المتوكل يهود ونصارى مصر سنة 849م لتَعلُّم اللغة العربية بمرسوم منه شخصيًّا، إلا أن المصريين ظلُّوا متمسكين بلغتهم يتحدثونها ويكتبونها، ويُعلِّمونها لأبنائهم، حتى تولى الحُكم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (996-1021م)، فأمر بمنع استخدام اللغة القبطية في الأماكن العامة، والتعليم، والمكاتبات، وفَرَض استخدام اللغة العربية على المصريين، ما يعني أن القبطية بقيت في ظل الحكم الإسلامي لغة الشعب لما يقرب من أربعة قرون، ورغم أنها قاومت كثيرًا من أجل البقاء، إلا أنه بمرور الوقت، ومع تضاعف أعداد المتحوِّلين عن المسيحية إلى الإسلام مِن جهة، والخوف من مخالفة أوامر وأهواء الحكام العرب من جهة أخرى؛ بدأت اللغة القبطية بالانحسار تدريجيًّا خاصة في المدن، بخلاف القرى والمناطق النائية التي قاومت لفترات أطول، ولَمَّا حان القرن السابع عشر الميلادي، وخلال الحكم العثماني لمصر؛ كان المصريون قد توقَّفوا عن التحدث والكتابة بالقبطية إلا نادرًا، فمنذ ذلك الحين وإلى اليوم لم تعد تُستخدم إلا في الكنائس ضمن الشعائر الدينية، وفي مدارس الأحد، والكُليَّات اللاهُوتية، وتُدرَّس أيضًا لطلبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجدير بالذِّكر أن حوالي 90% من سكان مدينة (الزِّينيَّة) التابعة للأَقصُر جنوبي مصر لا يزالون يستخدمونها في حياتهم اليومية ويُعلِّمونها لأبنائهم، مع إجادتِهم للعربية، تأكيدًا على رفض التخلي عنها كجزء أساسي من مورُوثهم المعرفي، رغم أن المدينة ذات أغلبية مسلمة. اللغة القبطية لم تمَُت! يَخفى على كثيرين من غير الباحثين والأقباط المسيحيين أن العديد من الكلمات الحية على ألسنة المصريين اليوم هي من قاموس اللغة القبطية أصلًا أو تحريفًا أو تأثُّرًا، ولم تندثر رغم أن لها مرادفات عربية، في دلالة على أن القبطية لم تستسلم تمامًا لِلُّغة الوافدة، وقُدِّر عدد هذه الكلمات بما يتجاوز ثلاثة عشر ألف كلمة متداولة في الأحاديث اليومية حسب ما وثَّقته بعض الدراسات، ويُصنَّف أغلبها ضمن قاموس العامية المصرية، ومنها على سبيل المثال: (أُوطَه/ طماطم)، (بَرْضُه/ أَيضًا)، (يَاما/ كثير) (خَمَّ/ خَدَع)، (وَشْوَش/ همَس)، (قُلَّة/ إِناء للشُّرب)، (فَشْخَرة/ تَباهٍ)، (هَجَّاص/ كثير الكذب)، (أُمْبُو/ ماء)، (آبا/ أَبي)، (بِتَّاوْ/ نوع من الخبز)، (بُوري/ نوع من السَّمك)، (بِيصارَة/ أَكلة مصرية)، (كانِي ومانِي/ سَمن وعَسل)، (أَيْوَه، أَه/ نعم)، وكذلك كلماتُ (حَنطُور، بُعبُع، بُرْش، بَلَّاص، أَوْبَاش، شِبشِب، قِيراط، فدَّان، بَرسيم، أَرْدَبّ، طُوبَة، خُنّ، شُونَة، أَتلَكَّع). وأسماء مدن ك (أَسيوط، دَيْروط، أَسوان، بَنها، دَمَنهُور، أَشمون، طَنطا، إِيتاي، سَخا، بِيَلا)، ولم يقتصر الأمر على صمود آلاف الكلمات القبطية أمام ما يرادفها في العربية، بل إن الأدلة على عدم الاستسلام المشار إليه آنفًا كثيرة، فمثلًا؛ المصري لا ينطق الثاء والذال والظاء من مخارجها الدقيقة، ولا يهتم لتفخيم حروف أو لترقيق أخرى، وفيما يخص التراكيب تجده مثلًا؛ يُؤخِّر اسم الإشارة عن المشار إليه فيقول: (الكِتاب دَهْ)، وليس (ذا الكتاب)، ويُلحِق حرف الشين بالأفعال المنفية مثل: فُلان ما كَتَبَش، والمنهيّ عنها ب(ما) في عاميته، فيقول: ما تِكْتِبْش، وهو ما لم يرد في العربية الفصحى ولا في لهجات قبائل شبه الجزيرة العربية. كل ذلك يؤكد أن اللغة القبطية لا تزال تقاوم الاندثار، وتُصرُّ على البقاء ولو في إطار ضيق جدًّا، وما يُعد من المفاجآت السارة لِمُحبِّيها أن شركة (جُوجل) قامتْ في مارس 2019م بإضافة حروفها رسميًّا إلى لوحة المفاتيح (جي بورد/ Gboard)، الخاصة بها، لتصبح الكتابة بالقبطية مُمكنة على نظامَي (أَندرويد وiOS)، ورغم أن منظمة اليُونسكو قد صنّفتها لغة منقرضة؛ إلا أن قرار (جوجل) أعطاها ما ارتآه البعض قُبلة الحياة، وأحدث جدلًا حول إمكانية عودتها كلُغة شعبية، وتعاظَمَت تطلُّعات كثيرين لاعتمادها لغة وطنية ثانية؛ تُدرَّس في مراحل التعليم المختلفة؛ أُسوةً بلغات عادت مُؤخَّرًا إلى المشهد في بلدانها، كالأمازيغية في الجزائر والمغرب. لِمَ لا؟! أفلا يُعدُّ إهمالها إلى هذا الحد إنكارًا لِمُكوِّن أساسي للهوية المصرية التي تَشكَّلت عبر العصور، وجريمة بحق أجيال تعاقبت وهي تجهل حقبة تاريخية طويلة ومهمة من ماضي وطنها الزاخر بالأحداث والآداب والعلوم والفنون؛ بسبب إهمال لغة أجدادهم التي كانت وِعاءً ثقافيًّا وحضاريًّا لها؟!