في زمن ما من المستقبل ستصل العلاقة بين التكنولوجيا والإنسان إلى مرحلة عداء تنشب فيها حرب بقاء بين الطرفين. وهذه ليست نبوءة بل حقيقة قررها الإنتاج الفني والثقافي الغربي منذ سبعينيات القرن الماضي قبل أن تخرج الأفكار من الكتب والأفلام لرسم شكل العالم على مقاس خيالها. أن تدار حيواتنا بالتطبيقات الإلكترونية، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء ليس مفاجأة بل سيناريو تم التخطيط والتمهيد له خطوة وراء الأخرى إلى أن اكتملت ملامحه لنفيق من حال التنويم المغناطيسي الخيالية على أن ما كنا نتسلى بمشاهدته وقراءته تحت تصنيف أعمال الخيال العلمي قد أصبح واقعنا وأنه يتعين علينا التعامل معه باعتباره ما ينبغي أن تكون عليه الدنيا حيث ننتقل من مستهلكين لمنتجات تافهة إلى مستخدمين في واقع افتراضي تنمحي فيه الذوات وتتحول إلى معلومات وأرقام تتاجر بها الشركات الكبرى. قبل أن يبدأ هذا كله ويتفاعل إلى الدرجة التي لم يعد معها ممكنًا إيقافه كان ثمة الكثير من التحذيرات والتي تتواصل إلى الآن، وإن كانت تلك الأصوات لا تبلغ الدرجة الكافية من التأثير في الحد من حماس البشرية واستغراقها في لعبتها الجديدة.. في كتابها «عصر رأسمالية المراقبة» تحلل شوشانا زوبوف، الفيلسوفة وعالمة النفس الاجتماعية الأمريكية، مفاهيم وملامح عصرنا الحالي، فالتهديد بدولة «الأخ الأكبر» الشمولية تحول إلى البنية الرقمية التي بات لها القدرة على الإحاطة والتنبؤ بالسلوكيات العامة بل والتأثير عليها وتوجيهها وهو في تقديرها تهديد مباشر للديمقراطية والحرية الإنسانية. على حد علمي فإن كتاب زوبوف لم يترجم إلى العربية بعد، بحثت عنه ولم أجده، إنما هناك مراجعات وافية عنه وهو مثل أعمال أخرى في هذا المجال تأخرنا في نقلها إلى ثقافتنا على الأقل لتكون جنبًا إلى جنب مع الهوس الذى امتلك تفاصيل حياتنا من دون الإحاطة بما يعنيه على وجه الدقة، فلا زلنا عند إيماننا العام البرىء بأن شبكة الإنترنت تعني توفير مصادر غير محدودة للمعرفة وضمانة للحرية، وهو مفهوم تحطم بعد سنوات من التطبيق، ترى زوبوف أيضًا (نقلا عن مراجعة ال «جارديان» للكتاب)، وعند تناولها ل «جوجل» كنموذج، أن الشركة التي بدأت بهدف تنظيم المعرفة الإنسانية وصلت إلى التحكم في إمكانيات الوصول إليها! ليست هناك حاجة للتدليل على عمق تأثير ثورة الأجهزة، ملامح العالم كما نعرفه تتغير وتتبدل مع سقوط الكثير من المفاهيم والأفكار والفلسفات بضغط من ملايين المستخدمين المشاركين عبر كل لحظة في بناء نظام يقوم على قاعدة عدم الاستقرار. وفى ظل التدفق المعلوماتي الهائل من الصعب ملاحظة إن كانت هناك ملامح لحركات متماسكة يمكنها أن تشكل نواة مقاومة ضد الهيمنة المطلقة لشركات التكنولوجيا على أدمغة البشر ومشاعرهم، من خلال الوسائط التكنولوجية المختلفة، وإعادة توجيهها في استعارة فجة للقدرات الإلهية! عالمنا العربي يبدو مشغولًا للغاية عن النقاش حول الهيمنة الكاملة للأجهزة بطرح السؤال حول قدرتنا على مواكبة التطورات، ومع حالة الانبهار بأدوات الذكاء الاصطناعي، بوظائفه وتطبيقاته نندفع بعمى لربطه بشؤوننا، العام منها والخاص، مع أن سهولة الحصول عليه وإتاحته بهذه الطريقة وتوفير المزيد من أدواته يوميًا وبلا مقابل تقريبًا يستلزم منا بعض التأني والانتباه وطرح سؤال آخر إلى جانب سؤال قدرتنا وتخلفنا عن الركب، لماذا؟ ما الفائدة التي تحصلها الشركات من إتاحة تلك الموارد لمليارات البشر إلا لتكتمل دائرة «رأسمالية المراقبة»، لتنتهي عبودية الرأسمالية الصناعية ونبدأ عصرًا جديدًا لا يختلف إلا في أن سلاسل الأسر أنيقة ومحكمة الإغلاق. ليس من المتصور بالطبع أن نبتعد وننأى بأنفسنا عما يجري، حتى لو حاولنا لن يكون ذلك في مقدورنا والنموذج الفني الرافض لهذه الثورة من الصعب تطبيقه: الانعزال الكامل في مساحات محصنة ضد الوصول التكنولوجي باعتباره السبيل الأوحد لمنع اختراق الأجهزة للعقل والمشاعر وبالتالي استعادة السيطرة على العقل، غير أنه مع ذلك فهو نموذج يستحق الدراسة لتبين كيف سنتطور لاحقًا من المقاومة السلبية لهذا النوع من الهيمنة، عبر تجنب تأثيراتها، إلى مقاومة إيجابية في السعي للموازنة ومنع السيطرة الكاملة للشركات على المصير الإنسانى. عانى العقل العربي طويلًا من وطأة السؤال عن أسباب تخلفنا، ومع تعدد الإجابات التفصيلية على مدار سنوات، إلا أنها ظلت حبيسة الكتب والدراسات وليس من السهل تبين تأثير الطفرات التكنولوجية على هذا العقل.. هل يمكنه استغلالها في الخروج من نطاق السلطات الاجتماعية والسياسية والدينية القاهرة ليجد حريته في الإبداع أم أنها قد تزيده تحجرًا وجمودًا بما توفره من وعود بأداء مهامه على نحو أكثر مهارة ودقة. يقطع المتخصصون بأن التشتت أحد الأعراض الجانبية لعصرنا التكنولوجي الغارق في بحر المعلومات ليس فقط تشتت الانتباه وقصر مداه وفقدان القدرة على التركيز العميق بل والأهم من ذلك تشتت الهوية بين الذات الواقعية والأخرى الرقمية، بين ما هو حقيقتنا وبين صورتنا المثالية على الإنترنت، ثم من جانب آخر إضعاف روابطنا الاجتماعية، وتزييف صورتنا عن العالم بسبب التعرض الدائم لآراء وقيم متنوعة ومتضاربة عبر الإنترنت وهذا بدوره يعمل على تشتت الأهداف والقيم وتشتت البوصلة الأخلاقية والفكرية. من ضمن ما شاع مؤخرًا فيديوهات لمستخدمين يشرحون لمستخدمين آخرين مزايا أدوات جديدة للذكاء الاصطناعي، شاهدت من بينها أحد الطلاب يبشر الدارسين بأداة من الصعب كشفها تتولى عنهم المهام الدراسية. قبلها كنت قد تعرفت على أدوات لصناعة المحتوى المرئي بلا مجهود، وأخرى للصور وهكذا، لم يصادفني إلى الآن من يبشر بأداة قادرة على كتابة رواية أو ديوان شعر، لكن أحد الناشرين ممن لهم خبرة مع التكنولوجيا أسر لي بأنه اكتشف مجموعة من الروايات المقدمة له، في مجال الروايات البوليسية وأدب الرعب، مكتوبة بمساعدة تطبيقات صناعية وأنها على الأغلب ستجد طريقها إلى النشر من خلال ناشرين آخرين بعد أن رفضها. ما الذي يخفيه لنا المستقبل إذن؟ ليست لدى إجابة ما لأن الفصل الخاص بنا لم يرد في السيناريو الفني الغربي من أفلام وروايات، كانوا يكتفون بنا دومًا في مشاهد صامتة تجري في عواصم تشيع فيها العادات والأزياء الغريبة ومخلفات الآلات شبه البشرية التي ستزاحمنا في الوجود على الأرض قريبًا استنادًا على السيناريو الفني. لم أجد بين تطبيقات الذكاء الاصطناعي ما يمكنه التكهن بالمستقبل، لكني أظن أنهم لو أوجدوه ستكون إجابته كالتالي: وسط هذا العصر المنقسم بين الواقعي والافتراضي يمكن لعالمكم العربي إن تمكن من استيعاب التحولات العنيفة والخروج من مأزق التشتت أن يلعب الدور الأكبر في صياغة وعي بشري جديد استنادًا إلى ما يملك من تراث روحي ما زال حيًا وبناء مقاومة إيجابية تعزز الوعي بآليات «رأسمالية المراقبة» ويسعى لصياغة مستقبل لا يكون البشر فيه مجرد أرقام!