سألت نفسى لماذا يهتم بعض الناس دون غيرهم بالكون؟ ولماذا يستمع البعض إلى دبيبه؟ قبل عامين مضيا أهدتنى الصديقة الروائية هالة البدرى نسخة من روايتها: وادى الكون، المنشورة بالقاهرة فى دار بتانة. تبدأ الصفحة الأولى فيها بعبارة من عبارات أهل التصوف العظام. تقول: - وفى كل شىء يلوح الهوى، ولكن لمن ذاق. وهالة البدرى روائية وقاصة وصحفية من جيل الستينيات، تغربت أكثر من مرة، ورغم أن الغُربة ضد فكرة كتابة الرواية إلا أنها حافظت على الكتابة الروائية. صدر لها: منتهى. مطر على بغداد، نساء فى بيتي، مدارات البراءة. ولأنها كاتبة مقروءة بشكل جيد داخل مصر وفى الوطن العربى وعلى مستوى العالم كله، حصلت على العديد من الجوائز من السويد وأمريكا، والبحرين، والجزائر. كما أنها حصلت فى مصر على جائزة الدولة للتفوق الأدبي. وتُرجِمت أعمالها إلى لغاتٍ كثيرة، ويتم تدريس رواياتها الجميلة فى كثير من الجامعات المصرية والعربية والعالمية. تكتُب المؤلفة على الغلاف: - سألت نفسى لماذا يهتم بعض الناس دون غيرهم بالكون؟ ولماذا يستمع البعض إلى دبيبه؟. إجابات كثيرة كلها تشير إلى الدراسة، لكن ملاحظاتى أثبتت أن الناس بالفِطرة يصلون إلى النتيجة نفسها. وأن الفروق بين الأديان ليست كبيرة. لماذا يتمسك أصحاب كل عقيدة بطقوس يدافعون عنها إلى حد القتل؟. قالت لى صديقتى الفيلسوفة التى تكبرنى بثلاثين عاماً، وتعيش فى فرنسا: - هذه الطقوس هى الشىء الحقيقى الذى يلم المجتمعات من دونها، لا يجمعهم شىء، وأعترف أننى صدَّقتها على الفور. والروائية تُهدى روايتها إلى ثلاثة أحفادٍ لها: تالا البدري، تَيِّم البدري، تيمور البدري. وفى هذه الرواية ميزة ربما نجدها فى النص الروائى العربى لأول مرة أن كل فصلٍ ينتهى بالتمهيد للفصل الذى يأتى بعده. أصِل إلى بداية الرواية. تكتُب: - اتصل بى إبنى إبراهيم من ولاية ميتشجن قائلاً: صباح الخير يا ننا، اليوم تصل حفيدتك وتجعلك جِدَّة رسمياً. بدأت آلام الطلق لدى لينا منذ قليل، وأنا فى طريقى إلى البيت الآن. طلب الطبيب أن تكون بالمستشفى بعد اثنى عشر ساعة وهى على بُعد خمسٍ وأربعين دقيقة. الفصل التالى عنوانه: جِدَّة لأول مرة. انتظرتك كما تنتظر الأرض خيط الصبح لتُشرق أملاً ووهجاً. ورغم أنى لم ألمسُك بيديَّ هاتين، فإننى أحتضنك وقلبى يخفق مقتصرة كل المسافات التى تفصلنى عنك، متخطية القارات والمحيطات، ممتطية طاقة الحُب التى هى أقوى من الزمان والمكان. وكل ما تعلمناه عن المنطق والمادة أضمك إلى صدرى فتشعر بالراحة وتمتلئ روحك بسعادة مازلت لا تعرفين مصدرها: هل هى سعادة التعرف على الجِدة؟. والجِدَّة هى الحكايات، فى هذا الاقتصار لكن الأزمنة هى ذاكرة الوعى واللاوعي. هى امتلاك التاريخ الإنسانى كله حتى إن لم تدرك الجِدَّات هذا. فقد جعلهن الله موطن أسراره، وجل قُدرته ووهبهن سر الحرية الأشمل، القدرة على الاحتفاظ بالخيال حياً فى مواجهة الغريزة، قوى الطبيعة الهائلة التى تدفعنا إلى الفناء. هذا ما تفعله الجدات فى كل بقاع الأرض، حيث يضعن أحفادهن بين أفخاذهن ورُحن يفرقن شعرهن بأصابعهن ليحكين. وتلجأ هالة البدرى إلى ضمير المُخاطب أنت، رغم أنه أقل الضمائر التى يستخدمها الروائيون عادة. لكنها تُصِّر عليه. تكتُب: - سوف تشمين رائحة طين الأرض لحظة ارتوائها بالماء. ورائحة حصاد القمح وأغانى الفلاحين. وستسمعين صوت محكمة التاسوع المقدس. وهى تُحاكم ست، وتحكُم لصالح حورس، وتعرفين جلجامش، وأنكيدو، وستعرفين عشتار إبنة القمر، وسأحملك فوق كف الخيال لنتدفأ معاً تحت شمس رع وهى تبسط أشعتها على الأرض الطيبة. هالة البدرى روائية غزيرة الإنتاج، لها مشروع روائى كامل، عملت عليه طول عمرها، حتى عندما كانت فى سنوات غربتها التى فرضت عليها كانت مستمرة فى مشروعها. وهى تعتبر القراءة ثم الكتابة دستور حياتها، وفن الرواية قضية عمرها. الروائية تعرضت لتجربة غربة فى العراق. ومن أعمالها: السباحة فى قمقم على قاع المحيط، رقصة الشمس والغيم، أجنحة الحصان، ليس الآن، امرأة ما، قصر النملة، مدن السور، حكايات من الخالصة عن مؤسسة روزاليوسف ووزارة الإعلام العراقية، فلاح مصرى فى أرض العراق، المرأة العراقية.