مع تسارع وتيرة تطور الذكاء الاصطناعي وفي لحظة فارقة من عمر التطور التكنولوجي، تظهر تقنيات تعيد تعريف مفهوم الإبداع البشري وتعيد صياغة مفهوم صناعة المحتوى المرئي من جذوره, وتطرح تساؤلات فلسفية حول ما إذا كان للخيال البشري حدود حقا. أداة "Veo 3"التي طورتها شركة "Google"، هي واحدة من الثورات التقنية التي قلبت موازين إنتاج الفيديو رأسا على عقب, والتي وصفت بأنها نقلة نوعية في عالم إنتاج الفيديو, حيث يمكن من خلالها تحويل النصوص والأفكار البسيطة إلى فيديوهات عالية الجودة، دون الحاجة إلى كاميرات أو استوديوهات أو فرق تصوير. ففي غضون ثوان، وبمجرد إدخال وصف نصي بسيط، تنتج الأداة مشاهد سينمائية واقعية إلى حد يربك المشاهد ويجعله يتساءل: هل هذا مشهد تم تصويره بكاميرات احترافية أم أنه محض خيال رقمي؟. الإجابة الصادمة: إنه خيال من صنع آلة. عندما شاهد عدد كبير من مستخدمي الإنترنت مؤخرا مقاطع فيديو تتمتع بواقعية مدهشة، سادت بينهم مشاعر الدهشة والتساؤل والمفاجأة لم تكن في جودة المشاهد فحسب، بل في أن هذه الأعمال لم تأت من استوديوهات هوليوود الضخمة أو على يد مخرجين عالميين، بل كانت من إنتاج أداة ذكاء اصطناعي طورتها شركة جوجل تحت اسم "Veo 3"، والتي باتت قادرة على توليد مقاطع فيديو تبدو وكأنها من صنع البشر، يصعب تمييزها عن الأعمال المصورة فعليا. أطلقت "جوجل" رسميا تقنية "Veo 3" لتوليد مقاطع الفيديو باستخدام الذكاء الاصطناعي باللغة العربية والإنجليزية، وسيكون متاحا في "Gemini Advanced"، لمختلف المستخدمين حول العالم في دول من ضمنها مصر والإمارات والسعودية. وقد جاء هذا التوسع الإقليمي ليلبي احتياجا متزايدا لدى صناع المحتوى في المنطقة الباحثين عن أدوات ذكية تمكنهم من تقديم محتوى عالي الجودة دون التكاليف الإنتاجية الباهظة. وتعد هذه التقنية تطويرا هائلا مقارنة بالإصدارات السابقة، إذ تتميز بقدرتها على إنتاج فيديوهات بدقة "4k"، حيث تدعم الصوت الواقعي، تحاكي تعابير الوجه وحركة الشفاه، وتوظف خوارزميات متقدمة لتحسين الإضاءة، التركيب البصري والواقعية الحركية. ومن أبرز المميزات هو دعمه للنصوص باللغة العربية، مما يعد إنجازا مهما للمنطقة العربية التي لطالما تأخرت في الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي المرئي. اقرأ أيضا: رئيس «القاهرة الفرانكفوني»: المسابقة هذا العام مخصصة للذكاء الاصطناعي هذا يمهد الطريق لإنتاج أفلام قصيرة، محتوى تعليمي، توثيق اجتماعي، وسرد بصري للحكايات المحلية بلغتنا، وبتكلفة تكاد تقترب من الصفر. تعتمد Veo 3"" على إدخال أوامر نصية يكتبها المستخدم بلغته بما في ذلك اللغة العربية, مثل "طفل يركض وسط أنقاض مدينة مدمرة يبحث عن أمه"، وتقوم "Veo 3" بتحليل النص وتحويله إلى فيديو مدته عدة ثوان أو دقائق، مع مشاهد حركية ومؤثرات صوتية وأجواء تصويرية قريبة من الواقعية, باستخدام خوارزميات ذكاء اصطناعي متقدمة. ويمكن للمستخدم دعم الوصف النصي بصور مرجعية أو أصوات لتخصيص النتيجة بدقة أكبر, لتكون النتيجة فيديو عالي الجودة دون الحاجة إلى كاميرا، استوديو، أو حتى ممثلين. تخيل أن تكتب: "رجل عجوز يجلس على شاطئ مهجور عند غروب الشمس، يتأمل صورة قديمة تحت وقع أمواج خفيفة". خلال أقل من دقيقة، تحول "Veo3"هذا الوصف إلى مشهد بصري متكامل يحتوي على خلفية موسيقية ملائمة، تعبيرات وجه حقيقية، وإضاءة تعكس إحساس الحنين والحزن. هذا التحول من الكلمة إلى الصورة أصبح سهلا لدرجة أنه بات متاحا لمنشئ محتوى يوتيوب فردي، أو مسوق رقمي مبتدئ، أو حتى طالب جامعي يعد مشروعا بصريا دون أي معدات تصوير. وأحد أبرز الأمثلة على استخدام "Veo 3" لإنتاج محتوى بصري هو الفيلم القصير "غزة تحت القصف"، والذي تم إنتاجه بالكامل بهذه الأداة. يجسد الفيلم مشهدا إنسانيا متكاملا يعكس معاناة سكان قطاع غزة في ظل القصف، حيث يصور أطفالا يسيرون بين أنقاض المباني والدخان الكثيف، يبحثون عن ذويهم وسط الدمار, يحمل الفيلم رسالة قوية موجهة إلى الشعوب العربية، تدعوهم إلى التحرك العاجل لوقف هذه الانتهاكات، مستخدما لقطات مؤثرة تلامس المشاعر الإنسانية بعمق. لم يستخدم في الفيلم أي معدات تصوير حقيقية، بل تم الاعتماد فقط على وصف نصي وبعض الصور المرجعية، وهو ما يعكس الإمكانات الثورية التي تتيحها التقنية في توثيق القضايا الإنسانية حتى لمن لا يملك كاميرا. باستخدام "Veo3" أيضا، يمكن لشركات صغيرة أو أفراد مبتدئين في صناعة الإعلان إنشاء فيديوهات دعائية أو ترويجية دون الحاجة لاستئجار ممثلين أو معدات تصوير ضخمة، بل يكفي فقط إدخال وصف نصي يعبر عن الفكرة. وهنا تكمن قيمة "Veo3" في تقليص التكاليف، تقليل الوقت، وزيادة القدرة على الابتكار بلا حدود. يستخدمها أيضا المعلمون في شرح المفاهيم المجردة من خلال مشاهد بصرية واقعية مثل: "رحلة عبر الجهاز الهضمي"، أو "محاكاة لمعركة بدر", حيث تقوم الأداة بتحويل المعلومات المعقدة إلى صور حية، تزيد من تفاعل الطلبة وفهمهم للمواد الدراسية. كما بات صناع المحتوى قادرين على إنتاج فيديوهات تخيلية أو واقعية بضغطة زر، في مجالات مثل محاكاة مدن المستقبل أو حتى قصص خيالية، مما زاد من تنافسهم على المنصات القصيرة مثل "TikTok" وغيرها. لكن بالنظر إلى الجانب الآخر من الحكاية, فبالرغم من الانبهار بالتقنية، إلا أنها تطرح إشكاليات أخلاقية عميقة تتعلق بالتزييف العميق، وحقوق الملكية الفكرية والخصوصية. فما الذي يمنع أحدهم من إنتاج فيديو لمشهد مزيف ونسبه لأحداث واقعية؟, وكيف يمكننا التمييز بين عمل بشري وآخر مولد آليا؟ وهل ستنجح "Google" في فرض معايير واضحة للشفافية، كما وعدت عندما أعلنت عن مجموعة ضوابط مصاحبة لإصدار الأداة، مثل تضمين توقيع رقمي في كل فيديو، وتحذيرات واضحة عند الاستخدام في محتوى سياسي أو أمني. يبدو أن السينما، كما عرفناها، تعيد تشكيل نفسها على يد الذكاء الاصطناعي, فلم تعد السينما حكرا على من يمتلك الميزانيات الضخمة، بل أصبحت مفتوحة لمن يمتلك الخيال فقط, وبين الإبداع الرقمي والخوف من إساءة الاستخدام وبينما تواصل الشركات الكبرى مثل "Google" و"OpenAI" و"Meta" سباقها في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي، علينا كمجتمعات أن نطرح السؤال الأهم: كيف نوازن بين الابتكار والمسؤولية؟.