قانون «تنظيم الفتوى الشرعية»، الذى ينتظر تصديق رئيس الجمهورية يحد من الفتوى العشوائية من خارج المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر والإفتاء والأوقاف)، وهذا جيد وحسن رغم بعض الملاحظات على مسودة القانون، ولكنه قانون له وجاهته الدينية المجتمعية كما يصفون. جد بجد لا ينقصنا فتاوى، لدينا فائض فتوى، ومؤسسات الفتوى الرسمية تعمل بكامل طاقتها فى إنتاج الفتاوى، ومحصول الفتوى لا تقل غلته، بل تزيد بمرور الأعوام. على سبيل المثال لا الحصر «مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية»، خلال عام 2024، عام مضى، أصدر نحو (1.961.711) فتوى هاتفية ونصية وميدانية وبحثية وإعلامية وعلى وسائل التواصل، تتعلق بكل ما يهم الناس فى حياتهم اليومية، وفى كل فروع الفقه من عبادات، ومعاملات، وأحوال شخصية، وقضايا الفكر والأديان، وما يعرض للجمهور من شبهات، فيض من فتاوى تتعلق بأمور الدين والدنيا. جهد فتوى مشكور، وإذا أضفنا لهذا الحصاد نحو (مليون و600 ألف) فتوى اضطلعت بالرد عليها دار الإفتاء، يبرهن مؤسسات الفتوى تعمل بكامل طاقتها الإنتاجية. الأرقام تؤشر على ارتفاع منسوب ثقة الشارع فى المؤسسة الدينية الرسمية، واجتذاب المؤسسة لقطاعات شعبية كانت تلتجئ فى طلب الفتوى لمفتين من خارج المؤسسة، بالضرورة لا يؤتمن جانبهم لا سيما مفتيى الإخوان والسلفيين، فضلا عن شيوع الفتاوى الإلكترونية، التى كانت قبلا مصدرًا رئيسيًا للفتوى، دون تمحيص وتدقيق فى مصادرها الفقهية. لافت ارتفاع معدلات استهلاك الفتوى بين العامة، نحو أربعة ملايين طلب فتوى فى عام مضى، والسؤال ما الذى يقلق راحة المصريين على نحو طلب الفتوى بهذه الكثافة، معدلات طلب الفتوى فى زيادة مستمرة، زادت هذا العام نحو 200 ألف فتوى فى دار الافتاء عن عام مضى؟ هل هى مستجدات الحياة وتعقيداتها، التى تولد إشكاليات حياتية تتطلب فتوى من الشيوخ الثقاة؟! هل تفسر على أنها نوبة تدين عميقة فى شعب متدين بطبعه على ما يصفون، أم تفسر على انها عارض دينى ألمّ بالمجتمع يستوجب تصحيحا دينيا تؤشر عليه حصاد طلب الفتوى المتصاعد وتيرته، الذى يمس كل مناحى الحياة؟ يخشى البعض من التنويريين تديين الفضاء العام، ومع زخات الفتاوى التى تهطل على وسائل التواصل الاجتماعى، باتت الفتوى تتحكم فى الذهنية فى عمومها، فبات سؤال الحرام والحلال من المقررات اليومية، صباحا ومساء، وفى برامج السهرة، لا تخلو من طلب الفتوى حتى فى سفاسف الأمور الحياتية! الإلحاح على طلب الفتوى بهذه الكثافة، التى تؤشر عليها الأرقام الصادرة من مركز الأزهر ودار الافتاء، فضلًا عن مفتيى وزارة الأوقاف، يحتاج إلى دراسة علمية مجتمعية معمقة، تطرح سؤالًا: ماذا حدث للمصريين إلى حد طلب الفتوى بكثافة لافتة لعلماء الاجتماع والنفس؟ هل طلب الفتوى ميل دينى غريزى، أم حادث عارض فى حياة المصريين؟ ومتى تتراجع موجة التدين الظاهرى لصالح التدين الحقيقى، الذى درج عليه المصريون؟ مثل هذه الظواهر المجتمعية تحتاج إلى مراجعات علمية بحثية أكاديمية، وليت المركز ودار الافتاء ووزارة الأوقاف تعكف مع مراكز البحث الاجتماعى والنفسانى، على دراسة حصاد الفتوى، وتفريدها، وتبويبها، والإحاطة بالمستجد منها، معلوم الفتوى تختلف بحسب أحوال البلد، وظروفها، واصطلاحاتها، وأعرافها.